أنور ربيع الخطيب
لا أكتب عن زاهر الخطيب كمراقبٍ بعيدٍ يلتمس المعلومة من أرشيفٍ بارد؛ أكتب عنه كابن أخٍ عايشه سنواتٍ تكفي لتجعل الذاكرة كتاباً، والكتاب شهادة. بين اسمه العام في وجدان الناس، واسمه الخاص في وجداني خيطٌ واحدٌ من المعاني؛ رجلٌ يثبت حين تهتزّ الأرض، والعدل خياره ولو ثقل ثمنه، ويجعل من المبادئ امتداداً طبيعياً لضميره قبل أن تكون امتداداً لموقعه.
عرفت زاهر الخطيب قائداً اختاره الناس، ونائباً جعل المنبر أمانةً للموقف، ولغته ليست سباقاً في الفصاحة، بل ميزاناً للحق. لم يكن في قامته شيءٌ مصنوع؛ هي تلك السكينة الواثقة التي تُشبه النبع، هادئةٌ في ظاهرها، لا تنضب في جوهرها.
كنت أضع بين يديه مذكّراتي ولوائحي القانونية فيقرأها على مهل، يتتبّع عبارتها مفردةً مفردة، يزن الإعراب بميزان المعنى، ويقيس الحجة بصرامة القانون. كان يقول لي، إنّ الكلمة في المحكمة موقف، فإذا اضطرب اللفظ اضطربت العدالة. لم يكن يصحّح لي نصاً فحسب، بل كان يصحّح لي الصنعة، ويعلّمني أنّ البلاغة ليست زينةً للخطاب، بل أداةٌ لرفع المظلمة عن كتفٍ أثقلها الباطل.
وخارج المكاتب كان لنا العيش البسيط. مارسنا الرياضة، ولعبنا كرة السلة، وتجادلنا طويلاً في الدين والفلسفة والحياة، ولم يكن يخلو مجلسٌ من طرفةٍ يرويها عن شبابه. كان حوارُه يفتح نافذةً ثم نافذة، حتى تجدك وقد غادرت ضيق السؤال إلى سعة النظر.
من شحيم خرج صوته باكراً إلى الشأن العام، ودخل الندوة البرلمانية شاباً، يوم حمّله الناس أمانةَ والده أنور الخطيب. وثبّتته انتخابات الدورات المتتالية، وبقي حاضراً كنائب خلال سنوات الحرب حتى عاد الانتظام إلى المؤسسات. ولمّا أُسندت إليه مسؤولية الإصلاح الإداري في حكومة أوائل التسعينيات، أخذ يقارب الإدارة كمن يقارب بيتَ الناس: يُعالج أعطابها بصبرٍ وآليات، ويقاوم ما تراكم فيها من بطءٍ وترهّلٍ ومحسوبيات. وهو الذي رأى في المنصب وسيلة لا موضع استعانة. صوته يميل حيث تميل مصلحةُ الناس؛ إدارةٌ وعدلٌ وحقوق إنسان، رقابةٌ تُقيم الحجة قبل أن ترفع الصوت، وقولٌ يضع الإصبع على المطبّ ثم يقترح سبيلاً لتجاوزه.
يوم اجتاحت إسرائيل بيروت وحوصرت مدنٌ وأحياء، لم يبدّل الرجل جلده، بل بقي حيث الناس؛ يرى في المقاومة حقاً لا بندقيّةً فقط، وفي فلسطين قضيّةَ وجدان لا مجرّد عنوانٍ لخطب. حمل قضايا العمال والفئات المُهمّشة كما يحمل المحامي ملفّ موكّله في ساعة الحقيقة، وكان انحيازه إلى الفقراء انحيازاً معرفياً وأخلاقياً معاً، يعرف كيف يصوغ التشريع لهم، وكيف يقيه من ثغراتٍ تلتهم روح القانون.
ولأنّ المحطات التي تُرسّخ في الوجدان تُعدّ بالمواقف. كان زاهر في طليعة الرافضين لاتفاق السابع عشر من أيّار، يوم فُرض على لبنان أن يوقّع على ما لا يليق بكرامته، قال لا واضحةً، «باسم شعبنا، وباسم المقاومين الرافضين للاحتلال، وباسم الصامدين والمتصدّين، وباسم المعتقلين في أنصار وفي سجون وأقبية العدو، وباسم عذابات جماهير شعبنا والأمهات الثكالى والأطفال اليتامى، باسمهم جميعاً» رفض زاهر الخطيب هذا الاتفاق، وطلب «أن يرفض هذا الاتفاق من أجل لبنان، من أجل شعب لبنان، ومن أجل كرامة الوطن والمصلحة الوطنية العليا» في زمنٍ يُغري بالمواربة، ورأى أنّ هذا الصلح ذلّ وليس سلاماً بل هو تسمية أُخرى للهزيمة.
كان من أوائل المحذّرين من نظامٍ طائفيٍّ يُفتّت الدولة وينهش عصبها. دعا إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة لا كشعارٍ مناسبٍ للمناسبات، بل كمطلبٍ دستوريٍّ عاجلٍ يحفظ وحدة شعب، ويعيد تعريف الولاء للوطن لا للطائفة. لذلك احترمه الخصومٌ قبل الرفاق.
وللمرافعة القانونية في سيرته فصلٌ له رائحة الحبر. دافع عن المعتقلين والمفقودين، وذكّر الحكومات بأنّ للدستور لساناً إذا سكتنا تكلّم. كافح الفساد لا على منابر الإعلام فقط، بل في بنودٍ مكتوبةٍ تُقدَّم وتُناقَش وتُحاسَب. وكان يؤمن أنّ ما يُصلِح الإدارة ليس غضب الخطب، بل نظمٌ تُبنى، وإجراءاتٌ تُحترم، ومثالٌ شخصيٌّ يقطع الطريق على التذرّع والتلاعب.
أكتب هذه الكلمات وأنا أستعيد نعوتاً تتكرّر الآن على الألسن بعد رحيله، نظافة الكفّ، صلابة الموقف، تواضعُ القامة العالية، ووقارُ النسر إذا حلّق. ولستُ أُخفي أنّ قلبي في خبر رحيله عاد إلى تفاصيل يراها سواي عاديّةً لا تُذكر، كيف كان يفتح النصّ فيشير بإصبعه إلى فاصلةٍ في غير مكانها ثم يقول لي أنت محامٍ، والفاصلة عندك قد تُنقِذ حقاً أو تُضيّعه. كيف كان يضع يده على كتفي بعد مباراة كرة سلةٍ خسرتها أمامه ثم يبتسم: «في المرّة المقبلة يمكن بتربح». وكيف كان صمته وهو يصغي أشدَّ تعليماً من كلام كثير.
ولستُ أتجمّل إذا قلت إنّي اليوم، وأنا أقرأ ما كتبه عنه رفاقٌ وخصوم، أشعر بأنّ الإنصاف أدرك صاحبه. ليس لأنّ المدائح سَهْلٌ نظمُها بعد الموت، بل لأنّ مَن عرفوه في الداخل والخارج التزموا حقيقةً واحدة، هذا رجلٌ لا يُشترى ولا يُستدرج ولا يُهدَّد. كانت الثورة عنده هدوءاً لا صخباً، وثباتاً لا نوبةَ غضب. كان يعرف أنّ التراجع خطوةٌ صغيرةٌ في الورق، وخسارةٌ كبيرةٌ في المعنى. ولذلك ظلّ صوته مُقلِقاً لمن لا يحبّون وضوح الأشياء.
زاهر الخطيب، أدين لك بما هو أبعد من المعرفة المهنية. أدين لك بأنّي تعلّمتُ أن أحمل الناس في قلبي حين أكتب عنهم في أوراقي، وأن أحضر فلسطين في مرافعاتي ولو لم تكن عنوان الدعوى، وأن أرى في الفقير مواطناً كاملَ الحقّ لا موضوعَ شفقة. أدين لك بأنّي حين أواجه ظلماً لا أبحث عن عذرٍ للسكوت، وحين أختلف مع خصمٍ لا أبحث عن مبرّرٍ لظلمٍ جديد. تلك هي المدرسة التي تخرّجتُ فيها على يديك، أن تكون السياسة أخلاقاً، وأن يكون القانون روحاً، وأن يكون الوطن أوسع من خريطةٍ وأقرب من بيت.
أبو وسام، يا من كنت لي أستاذاً ورفيق دربٍ وصديقاً كريماً رغم فَرق السنّ والمقام، شكراً لأنّك جعلت المبدأ عادةً يوميّة لا موسماً، وشكراً لأنّك تركت لنا من تاريخك ما نتّكِئ عليه في الأوقات النازلة؛ أنّ الحرية لا تُمنح، وأنّ الكرامة لا تُستعار، وأنّ الحقّ إن لم يجد من يدافع عنه ضاع بين الأقوياء.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire