د. طنوس شلهوب
أكثر من ملياري إنسان، أي ما يزيد على ثلاثين بالمئة من سكان الكرة الأرضية، يحملون في أفكارهم رواية مجيئكَ إلى هذا العالم، ويعتقدون أنكَ تعيش في قلوبهم، ويؤمنون أنكَ أتيتَ لتخلصهم من العذاب والالم والفقر والإذلال الذي يتعرضون له، من أخوة مفترضين لهم، في المعتقد أو في الانسانية، ويروون القصص لأولادهم وأطفالهم كيف أتيت عارياً الى عالمٍ باردٍ وقاسٍ، واكتفيت بفراش من التبنِ لم يكن سوى معلفٍ لخرفان وبقرات، كان لهم الفضل في حمايتك من برد العري، وذهبت بعيداً في نضالك لتقدم ذاتك قرباناً من أجل الناس، وتركت لأتباعك صورة المخلص الذي يجمع في شخصيته سمو الآلهة ومشاعر البشر.
أخبرتنا، أنه أسهل على الفيل المرور من خرم الإبرة من دخول الأثرياء الى الجنة، وقسمتَ السمكات الثلاث على أربعين شخصاً ليتشاركوا فيها، وشبعوا بالرغم من القليل الذي دخل بطونهم، لتقول لنا إن الاشتراكية أفضل من الأنانية، ولا يجوز أن يأكل السمكات فردٌ واحدٌ بينما ينظر اليه الأخرون بعيونٍ جائعةٍ.
أكثر من ألفي عام انقضى على حضورك، وبفضل تعاليمك المشبعة بالتواضع والمحبة ونكران الذات انتَصَرَتّ، وغَيَرَتّ العالم، وسقطت العبودية أمام أممية تعاليمك الانسانية وحققت البشرية قفزة حضارية هائلة.
أكتبُ اليكَ اليوم وأرغبُ أن أخبركَ، أن العالم ليس كما أردتَهُ، وأن تعاليمك قد جرى التنكر لجوهرها من قبل الناطقين باسمك، ولن أرجع في التاريخ الى الوراء، الى العصور الظلامية، الى الحروب الدينية، الى المشاريع الاستعمارية التي أفنت ودمرت شعوباً بأكملها، وأفقرت مجتمعات، وسمحت بتركيز الثروات الهائلة في أيدي حفنة من الناس، وأن كل ذلك جرى باسمك وباسم تعاليمك.
أود أن أخبرك، أنه في عالمنا اليوم يوجد أكثر من 850 مليون إنسان يعيشون في فقر مدقع، وأن ملياري ومئتي مليون إنسان لا يتعدى دخلهم اليومي دولارين اميركيين للفرد الواحد، وأن التوقعات تشير إلى أنه إذا استمر الأمر على ما نحن عليه، فأن عدد الذين يعانون من الجوع سيصل الى ملياري إنسان نحو العام 2050، وأن القسم الأكبر من هؤلاء الناس يعيشون فيما يسمى البلدان النامية.
ولا بد أن أشير، ونحن اليوم ننظر اليكَ طفلاً صغيراً حاملاً كل النور والأمل، بأن أكثر من ستة ملايين طفل دون سن الخامسة يموتون سنوياً بسبب نقص التغذية والعناية الطبية وانعدام ثقافة الأم، ونصفهم يموت بسبب نقص التغذية، وأن حوالي 70 مليون طفل من هذه البلدان، المسماة نامية، يذهبون الى المدرسة في المرحلة الابتدائية وهم جياع، في حين يبقى 60 مليون طفل خارج المدرسة. وطالما نتحدث عن هذه البلدان، فأن أكثر من مليار ونصف من سكانها محرومون من الكهرباء. كما أن حوالي 700 مليون انسان محرومون من مياه الشرب، في حين أن مليار وثلاث مئة مليون إنسان يستعملون مياهاً ملوثة بيولوجياً.
وبسبب ما أكتبه، لا أعرف إذا كنتُ قد سببتُ لك ألاماً إضافية لتلك التي عانيتها أنت وأفديتَ البشر بها عندما قدمتَ نفسَكَ ذبيحةً على الصليب، وجعبتي لم تفرغ بعد، لذا، سأحاول الاختصار لعلمي بحجم المسائل التي تشغلك، وسأتمنى عليك لو أنك تقوم بإطلالة سريعة على لبنان والعالم العربي، وتردع أصحاب المدارس والمستشفيات ودور العجزة وكل المؤسسات الاخرى الذين ينطقون باسمك، وليكفوا عن المتاجرة بالمبادئ السامية التي ترمز اليها. جشعهم لا حدود له، وكل كلامهم في القداديس والوعظات عن المحبة والتسامح والمغفرة يتبخر أمام رائحة الدولار، وانت تعلم جيداً أنك ومنذ تلك الأيام البعيدة قد حذرت منهم، ووصفتهم بتجار الهيكل، تماماً هؤلاء هم من يحتل أعلى الرتب في كنيستك، التي أردتها بيتاً اشتراكياً للمحبة والتعاضد والانسانية، وشتان ما بين رجل اكتفى برداء من الخيش ليحمي نفسه من البرد، وجيش من التجار لا حدود لطمعهم وأنانياتهم
. سأسمح لنفسي ان أخبرك بأن لي بعض العتب عليك لما يحدث في فلسطين، حيث يجري صلب شعب بأكمله، تماماً ومن الجماعة ذاتها، التي صلبتك، على مرأى من عيون البشر، وبتواطؤٍ من بعض المدعين انهم يحمون كنيستك، هؤلاء الذين ذكرتهم من قبل، وهم الذين أبادوا الهنود الحمر، ومنهم من يزعم أنك تكلمه وتوحي له بما ينبغي ان يقوم به، ولا أفهم كيف لك أن لا تتألم وانت الفلسطيني المنشأ، وما يجري اليوم ليس سوى إبادة لشعبك، واهانة لتاريخك ولرسالتك.
أعذرني، وكما يقولون عندنا، على قد المحبة العتب كبير. أمل أن تستلم رسالتي وقد تفهمت دوافعي، فأنا لست أكثر من غبرة فانية في هذا الكون اللامتناهي، وقد امتلكتّ شيئاً من العقل والوعي والحواس، مضافاً اليها حسٌ انساني يجمع ما بين الكرامة والمحبة، وهي قيم انتقلت اليها عبر رياح الحضارات الكبرى، والتي كان لك فيها الفضل الكبير لما تتضمنه من تناغم وانسانية وبساطة وتواضع واشتراكية، وما زالت تتطاير بانتظار سقوطها في بحر السكون اللامتناهي.
أكثر من ملياري إنسان، أي ما يزيد على ثلاثين بالمئة من سكان الكرة الأرضية، يحملون في أفكارهم رواية مجيئكَ إلى هذا العالم، ويعتقدون أنكَ تعيش في قلوبهم، ويؤمنون أنكَ أتيتَ لتخلصهم من العذاب والالم والفقر والإذلال الذي يتعرضون له، من أخوة مفترضين لهم، في المعتقد أو في الانسانية، ويروون القصص لأولادهم وأطفالهم كيف أتيت عارياً الى عالمٍ باردٍ وقاسٍ، واكتفيت بفراش من التبنِ لم يكن سوى معلفٍ لخرفان وبقرات، كان لهم الفضل في حمايتك من برد العري، وذهبت بعيداً في نضالك لتقدم ذاتك قرباناً من أجل الناس، وتركت لأتباعك صورة المخلص الذي يجمع في شخصيته سمو الآلهة ومشاعر البشر.
أخبرتنا، أنه أسهل على الفيل المرور من خرم الإبرة من دخول الأثرياء الى الجنة، وقسمتَ السمكات الثلاث على أربعين شخصاً ليتشاركوا فيها، وشبعوا بالرغم من القليل الذي دخل بطونهم، لتقول لنا إن الاشتراكية أفضل من الأنانية، ولا يجوز أن يأكل السمكات فردٌ واحدٌ بينما ينظر اليه الأخرون بعيونٍ جائعةٍ.
أكثر من ألفي عام انقضى على حضورك، وبفضل تعاليمك المشبعة بالتواضع والمحبة ونكران الذات انتَصَرَتّ، وغَيَرَتّ العالم، وسقطت العبودية أمام أممية تعاليمك الانسانية وحققت البشرية قفزة حضارية هائلة.
أكتبُ اليكَ اليوم وأرغبُ أن أخبركَ، أن العالم ليس كما أردتَهُ، وأن تعاليمك قد جرى التنكر لجوهرها من قبل الناطقين باسمك، ولن أرجع في التاريخ الى الوراء، الى العصور الظلامية، الى الحروب الدينية، الى المشاريع الاستعمارية التي أفنت ودمرت شعوباً بأكملها، وأفقرت مجتمعات، وسمحت بتركيز الثروات الهائلة في أيدي حفنة من الناس، وأن كل ذلك جرى باسمك وباسم تعاليمك.
أود أن أخبرك، أنه في عالمنا اليوم يوجد أكثر من 850 مليون إنسان يعيشون في فقر مدقع، وأن ملياري ومئتي مليون إنسان لا يتعدى دخلهم اليومي دولارين اميركيين للفرد الواحد، وأن التوقعات تشير إلى أنه إذا استمر الأمر على ما نحن عليه، فأن عدد الذين يعانون من الجوع سيصل الى ملياري إنسان نحو العام 2050، وأن القسم الأكبر من هؤلاء الناس يعيشون فيما يسمى البلدان النامية.
ولا بد أن أشير، ونحن اليوم ننظر اليكَ طفلاً صغيراً حاملاً كل النور والأمل، بأن أكثر من ستة ملايين طفل دون سن الخامسة يموتون سنوياً بسبب نقص التغذية والعناية الطبية وانعدام ثقافة الأم، ونصفهم يموت بسبب نقص التغذية، وأن حوالي 70 مليون طفل من هذه البلدان، المسماة نامية، يذهبون الى المدرسة في المرحلة الابتدائية وهم جياع، في حين يبقى 60 مليون طفل خارج المدرسة. وطالما نتحدث عن هذه البلدان، فأن أكثر من مليار ونصف من سكانها محرومون من الكهرباء. كما أن حوالي 700 مليون انسان محرومون من مياه الشرب، في حين أن مليار وثلاث مئة مليون إنسان يستعملون مياهاً ملوثة بيولوجياً.
وبسبب ما أكتبه، لا أعرف إذا كنتُ قد سببتُ لك ألاماً إضافية لتلك التي عانيتها أنت وأفديتَ البشر بها عندما قدمتَ نفسَكَ ذبيحةً على الصليب، وجعبتي لم تفرغ بعد، لذا، سأحاول الاختصار لعلمي بحجم المسائل التي تشغلك، وسأتمنى عليك لو أنك تقوم بإطلالة سريعة على لبنان والعالم العربي، وتردع أصحاب المدارس والمستشفيات ودور العجزة وكل المؤسسات الاخرى الذين ينطقون باسمك، وليكفوا عن المتاجرة بالمبادئ السامية التي ترمز اليها. جشعهم لا حدود له، وكل كلامهم في القداديس والوعظات عن المحبة والتسامح والمغفرة يتبخر أمام رائحة الدولار، وانت تعلم جيداً أنك ومنذ تلك الأيام البعيدة قد حذرت منهم، ووصفتهم بتجار الهيكل، تماماً هؤلاء هم من يحتل أعلى الرتب في كنيستك، التي أردتها بيتاً اشتراكياً للمحبة والتعاضد والانسانية، وشتان ما بين رجل اكتفى برداء من الخيش ليحمي نفسه من البرد، وجيش من التجار لا حدود لطمعهم وأنانياتهم
. سأسمح لنفسي ان أخبرك بأن لي بعض العتب عليك لما يحدث في فلسطين، حيث يجري صلب شعب بأكمله، تماماً ومن الجماعة ذاتها، التي صلبتك، على مرأى من عيون البشر، وبتواطؤٍ من بعض المدعين انهم يحمون كنيستك، هؤلاء الذين ذكرتهم من قبل، وهم الذين أبادوا الهنود الحمر، ومنهم من يزعم أنك تكلمه وتوحي له بما ينبغي ان يقوم به، ولا أفهم كيف لك أن لا تتألم وانت الفلسطيني المنشأ، وما يجري اليوم ليس سوى إبادة لشعبك، واهانة لتاريخك ولرسالتك.
أعذرني، وكما يقولون عندنا، على قد المحبة العتب كبير. أمل أن تستلم رسالتي وقد تفهمت دوافعي، فأنا لست أكثر من غبرة فانية في هذا الكون اللامتناهي، وقد امتلكتّ شيئاً من العقل والوعي والحواس، مضافاً اليها حسٌ انساني يجمع ما بين الكرامة والمحبة، وهي قيم انتقلت اليها عبر رياح الحضارات الكبرى، والتي كان لك فيها الفضل الكبير لما تتضمنه من تناغم وانسانية وبساطة وتواضع واشتراكية، وما زالت تتطاير بانتظار سقوطها في بحر السكون اللامتناهي.
شكراً اسكندر حبش
أيهم السهلي
حين يرحل المبدعون الكبار، يفتقد العالم شيئاً من جماله، وتفتقد مدنهم ضوءاً باهراً، وهذا ما حدث مع بيروت، واللد، مدينتي الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني اسكندر حبش، الذي غادر عالمنا في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2025.
عاش في بيروت، ويصح القول إنه عاش بيروت، فحفظها وفهمها، أمّا فلسطين فكانت قصّته الدائمة الحضور في وعيه وشعره واهتماماته، وفي اهتماماته في السنوات الأخيرة، لمّا التقى بـ«أكاديمية دار الثقافة» في مخيم مار الياس في بيروت، وعزز اهتمامه بعد رحيله، لمّا أهدى مكتبته إلى الأكاديمية، التي احتفت به في حياته، عبر أكثر من لقاء، وعبر كتاب «إسكندر حبش... ضوء الأمكنة المتناغمة (عن الشعر والحياة وفضاءات أخرى)» الصادر عن «دار الفارابي» في بيروت، وهو حوار مهم ومطوّل أجرته معه الشاعرة والفنانة الفلسطينية تغريد عبد العال، والمشرفة على أنشطة الأكاديمية منذ تأسيسها.
وحسناً فعلت زوجته شيرين موسى حبش، بأن وضعت المكتبة في «أكاديمية دار الثقافة»، بعدما قررت التبرع بمكتبة اسكندر التي توافرت على آلاف الكتب، التي جمعها عبر سنين طويلة من القراءة والكتابة والترجمة، وربما ما قاله الراحل طلال سلمان عن اسكندر يوضح شيئاً عن علاقة اسكندر بالكتب: «يتعب اسكندر حبش من الكلام، لكنه لا يتعب مع القراءة، فإذا تعب منها كتب» (طلال سلمان، «السفير»، 29/11/2002).
وضعت شيرين مكتبة زوجها ورفيق دربها في المخيم، ليستفيد منها الجميع، ولا سيّما أن «الأكاديمية»، وإن كان مقرّها في مخيم مار الياس، إلا إنها تعمل في أماكن عدة، حتى في بلدان أخرى كسوريا، وذلك لأنها تجسيد لمشروع ثقافي، افتقرت إليه المخيمات الفلسطينية منذ سنوات، وللدقة أكثر، افتقر إليه المشروع السياسي الفلسطيني ككل. وليس نافلاً ولا نافراً القول، إنّ المشروع الوطني الفلسطيني تهشّم لمّا غاب المشروع الثقافي.
لذا، فهذه الأكاديمية التي تعمل منذ سنوات قليلة، أعادت الحيوية بشكل أو بآخر للملف الثقافي، بوصفه بوصلة، وبوصفه ضرورة، وليس مجرّد خيار للقضية الوطنية. لقد غاب الفعل الثقافي عن الساحة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، فبتنا أمام مشاريع فردية، أدبية وفنية وموسيقية وسينمائية ومسرحية، بعضها ينجح في اكتساب جماهيرية، وحضور شعبي، وبعضها لا.
لكن القاسم المشترك بين كل هذه المشاريع الفردية، أنها وإن كانت تخوض النضال من بوابة الثقافة، إلا أنها، ولتهميش السياسة الفلسطينية للعامل الثقافي، لا تستثمر في الإطار النضالي العام. عكس ما كان عليه الحال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولعل «الأكاديمية» تنجح في إعادة الاعتبار للثقافة والعمل الثقافي، بوصفهما موجة للسياسة، ومؤطراً يبثّ الوعي في الناس، فيعودون إلى دورهم في المطالبة بحقهم. فالثقافة تساعد الإنسان لينادي بحقه.
ووجود مكتبة اسكندر حبش، الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني في «الأكاديمية» يعزز ما ذهبت إليه، ولا سيّما أنّ اسكندر ظل حتى لحظاته الأخيرة ملتزماً بالعلاقة بين الثقافة والسياسة، ولذلك يقول في الحوار المذكور أعلاه: «كل شيء مسألة نيّة.
هذا هو أساس الالتزام (الأساس الذي يُميز الثور عن المتمرّد)، والذي يتمثّل في تكليف الأدب، مُسبقاً، بمهمة صياغة أيديولوجية، وأخلاق، وعقيدة سياسية، وصياغتها في خطاب نضالي احتجاجي، إلخ» (ص61). يقول هذا، وهو يضيف موضحاً أنه مبدع غير «ملتزم» بالمفهوم السارتري، ويوضح هدفه من الكتابة بالقول: «كان هدفي الأساسي مهاجمة اللغة بشكل مختلف، فيما لو جاز القول، اللغة السائدة التي نسمعها في الإعلام والخطاب السياسي المعادي للمقاومة بمفهومها العام.
وهي في عمقها أيضاً تؤكد بوضوح رؤية سياسية وتقدم قراءة نقدية للحدث، ونفهم فوراً من أين أتحدث» (المصدر نفسه، ص63). إنّ الذي قال الكلام السابق، لا يستغرب على الإطلاق أن يكون قد أوصى بأن تذهب مكتبته إلى مكان كالمخيّم، بما هو مكان لقضية سياسية وإنسانية كالقضية الفلسطينية.
في الكلام السابق، محاولة لتحية اسكندر حبش، لقوته، لقدرته على التمسك بالحلم، لإيمانه بأنه باقٍ ولن يرحل، فقد قرّر أن يستمرّ بيننا بكتبه الكثيرة، شعراً وترجمة، وبمكتبته التي تشبه الروح. وفي الكلام السابق مناسبة لتحية «أكاديمية دار الثقافة» التي قالت في بيان استقبال المكتبة «شكراً اسكندر حبش»، فشكراً لها أيضاً. فالمكتبة والكتب في المخيّم، ستعالج آلاماً كثيرة، ولا سيّما إن ساعدت أو ألهمت أحدهم على الكتابة، هكذا على الأقل قال اسكندر في حواره مع تغريد: «بكتابة نصٍّ، أياً كان، أدبياً كان أم لا، قصيراً أم طويلاً، قوياً أم باهتاً، فهي تُحاسب المرض وتُخبره، أننا ما زلنا هنا، على قيد الحياة. وهذا يُمكن أن يُصبح فعلاً من أفعال القوة». وكم يحتاج الإنسان إلى القوة.
أيهم السهلي
حين يرحل المبدعون الكبار، يفتقد العالم شيئاً من جماله، وتفتقد مدنهم ضوءاً باهراً، وهذا ما حدث مع بيروت، واللد، مدينتي الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني اسكندر حبش، الذي غادر عالمنا في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2025.
عاش في بيروت، ويصح القول إنه عاش بيروت، فحفظها وفهمها، أمّا فلسطين فكانت قصّته الدائمة الحضور في وعيه وشعره واهتماماته، وفي اهتماماته في السنوات الأخيرة، لمّا التقى بـ«أكاديمية دار الثقافة» في مخيم مار الياس في بيروت، وعزز اهتمامه بعد رحيله، لمّا أهدى مكتبته إلى الأكاديمية، التي احتفت به في حياته، عبر أكثر من لقاء، وعبر كتاب «إسكندر حبش... ضوء الأمكنة المتناغمة (عن الشعر والحياة وفضاءات أخرى)» الصادر عن «دار الفارابي» في بيروت، وهو حوار مهم ومطوّل أجرته معه الشاعرة والفنانة الفلسطينية تغريد عبد العال، والمشرفة على أنشطة الأكاديمية منذ تأسيسها.
وحسناً فعلت زوجته شيرين موسى حبش، بأن وضعت المكتبة في «أكاديمية دار الثقافة»، بعدما قررت التبرع بمكتبة اسكندر التي توافرت على آلاف الكتب، التي جمعها عبر سنين طويلة من القراءة والكتابة والترجمة، وربما ما قاله الراحل طلال سلمان عن اسكندر يوضح شيئاً عن علاقة اسكندر بالكتب: «يتعب اسكندر حبش من الكلام، لكنه لا يتعب مع القراءة، فإذا تعب منها كتب» (طلال سلمان، «السفير»، 29/11/2002).
وضعت شيرين مكتبة زوجها ورفيق دربها في المخيم، ليستفيد منها الجميع، ولا سيّما أن «الأكاديمية»، وإن كان مقرّها في مخيم مار الياس، إلا إنها تعمل في أماكن عدة، حتى في بلدان أخرى كسوريا، وذلك لأنها تجسيد لمشروع ثقافي، افتقرت إليه المخيمات الفلسطينية منذ سنوات، وللدقة أكثر، افتقر إليه المشروع السياسي الفلسطيني ككل. وليس نافلاً ولا نافراً القول، إنّ المشروع الوطني الفلسطيني تهشّم لمّا غاب المشروع الثقافي.
لذا، فهذه الأكاديمية التي تعمل منذ سنوات قليلة، أعادت الحيوية بشكل أو بآخر للملف الثقافي، بوصفه بوصلة، وبوصفه ضرورة، وليس مجرّد خيار للقضية الوطنية. لقد غاب الفعل الثقافي عن الساحة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، فبتنا أمام مشاريع فردية، أدبية وفنية وموسيقية وسينمائية ومسرحية، بعضها ينجح في اكتساب جماهيرية، وحضور شعبي، وبعضها لا.
لكن القاسم المشترك بين كل هذه المشاريع الفردية، أنها وإن كانت تخوض النضال من بوابة الثقافة، إلا أنها، ولتهميش السياسة الفلسطينية للعامل الثقافي، لا تستثمر في الإطار النضالي العام. عكس ما كان عليه الحال في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولعل «الأكاديمية» تنجح في إعادة الاعتبار للثقافة والعمل الثقافي، بوصفهما موجة للسياسة، ومؤطراً يبثّ الوعي في الناس، فيعودون إلى دورهم في المطالبة بحقهم. فالثقافة تساعد الإنسان لينادي بحقه.
ووجود مكتبة اسكندر حبش، الشاعر والمترجم الفلسطيني – اللبناني في «الأكاديمية» يعزز ما ذهبت إليه، ولا سيّما أنّ اسكندر ظل حتى لحظاته الأخيرة ملتزماً بالعلاقة بين الثقافة والسياسة، ولذلك يقول في الحوار المذكور أعلاه: «كل شيء مسألة نيّة.
هذا هو أساس الالتزام (الأساس الذي يُميز الثور عن المتمرّد)، والذي يتمثّل في تكليف الأدب، مُسبقاً، بمهمة صياغة أيديولوجية، وأخلاق، وعقيدة سياسية، وصياغتها في خطاب نضالي احتجاجي، إلخ» (ص61). يقول هذا، وهو يضيف موضحاً أنه مبدع غير «ملتزم» بالمفهوم السارتري، ويوضح هدفه من الكتابة بالقول: «كان هدفي الأساسي مهاجمة اللغة بشكل مختلف، فيما لو جاز القول، اللغة السائدة التي نسمعها في الإعلام والخطاب السياسي المعادي للمقاومة بمفهومها العام.
وهي في عمقها أيضاً تؤكد بوضوح رؤية سياسية وتقدم قراءة نقدية للحدث، ونفهم فوراً من أين أتحدث» (المصدر نفسه، ص63). إنّ الذي قال الكلام السابق، لا يستغرب على الإطلاق أن يكون قد أوصى بأن تذهب مكتبته إلى مكان كالمخيّم، بما هو مكان لقضية سياسية وإنسانية كالقضية الفلسطينية.
في الكلام السابق، محاولة لتحية اسكندر حبش، لقوته، لقدرته على التمسك بالحلم، لإيمانه بأنه باقٍ ولن يرحل، فقد قرّر أن يستمرّ بيننا بكتبه الكثيرة، شعراً وترجمة، وبمكتبته التي تشبه الروح. وفي الكلام السابق مناسبة لتحية «أكاديمية دار الثقافة» التي قالت في بيان استقبال المكتبة «شكراً اسكندر حبش»، فشكراً لها أيضاً. فالمكتبة والكتب في المخيّم، ستعالج آلاماً كثيرة، ولا سيّما إن ساعدت أو ألهمت أحدهم على الكتابة، هكذا على الأقل قال اسكندر في حواره مع تغريد: «بكتابة نصٍّ، أياً كان، أدبياً كان أم لا، قصيراً أم طويلاً، قوياً أم باهتاً، فهي تُحاسب المرض وتُخبره، أننا ما زلنا هنا، على قيد الحياة. وهذا يُمكن أن يُصبح فعلاً من أفعال القوة». وكم يحتاج الإنسان إلى القوة.
عصام بوخالد: شهرزاد معاصرتنا
تقترب «وسكتت… عن الكلام المباح» للمخرج عصام بوخالد من المناطق المسكوت عنها، لتواجه الصمت بوصفه فعلاً درامياً بحدّ ذاته.
المسرحية التي تتناول التعنيف الأسري، تُقام بعروض جديدة بين 15 و18 كانون الثاني (يناير) على مسرح «دوّار الشمس»، وتنطلق من نصّ يستحضر الأسئلة المؤجَّلة عن الجسد، والذاكرة، واللغة، حيث لا يُستخدم الكلام بوصفه أداة شرح، بل بوصفه عبئاً، فيما يتحوّل الصمت إلى مساحة مواجهة وكشف. عبر أداء جماعي قائم على التوتر الداخلي والحركة المدروسة، يبني العمل عالمه المسرحي على ما لا يُقال، وعلى هشاشة الإنسان حين يُجبر على الكتمان.
تتوزّع المشاهد بين لحظات كثيفة الإيقاع وأخرى ساكنة، في مقاربة مسرحية تمزج التعبير الجسدي بالصورة والفراغ، وتضع المتفرّج أمام تجربة حسّية تتجاوز السرد التقليدي، وتدفعه إلى الإصغاء لما يحدث خلف الكلمات.
* «وسكتت… عن الكلام المباح»: من 15 إلى 18 كانون الثاني (يناير) - الساعة 8:30 مساءً - «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة). للاستعلام: 01/381290
تقترب «وسكتت… عن الكلام المباح» للمخرج عصام بوخالد من المناطق المسكوت عنها، لتواجه الصمت بوصفه فعلاً درامياً بحدّ ذاته.
المسرحية التي تتناول التعنيف الأسري، تُقام بعروض جديدة بين 15 و18 كانون الثاني (يناير) على مسرح «دوّار الشمس»، وتنطلق من نصّ يستحضر الأسئلة المؤجَّلة عن الجسد، والذاكرة، واللغة، حيث لا يُستخدم الكلام بوصفه أداة شرح، بل بوصفه عبئاً، فيما يتحوّل الصمت إلى مساحة مواجهة وكشف. عبر أداء جماعي قائم على التوتر الداخلي والحركة المدروسة، يبني العمل عالمه المسرحي على ما لا يُقال، وعلى هشاشة الإنسان حين يُجبر على الكتمان.
تتوزّع المشاهد بين لحظات كثيفة الإيقاع وأخرى ساكنة، في مقاربة مسرحية تمزج التعبير الجسدي بالصورة والفراغ، وتضع المتفرّج أمام تجربة حسّية تتجاوز السرد التقليدي، وتدفعه إلى الإصغاء لما يحدث خلف الكلمات.
* «وسكتت… عن الكلام المباح»: من 15 إلى 18 كانون الثاني (يناير) - الساعة 8:30 مساءً - «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة). للاستعلام: 01/381290
الجبهة الشعبية تُعرب عن تضامنها الكامل مع أبطال "فلسطين أكشن" المضربين عن الطعام
أعربت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن تضامنها الكامل واللامحدود مع أبطال حركة "فلسطين أكشن" (Palestine Action) المضربين عن الطعام في السجون البريطانية، الذين دخلت حالتهم الصحية مرحلة الخطر الشديد؛ جرّاء إصرارهم على مواجهة منظومة القمع الاستعمارية بصدورهم الخاوية، دفاعاً عن الحق الفلسطيني ورفضاً لتواطؤ الحكومة البريطانية في حرب الإبادة.
وحمّلت الجبهة في بيان صدر عنها الأحد حكومة حزب العمال البريطانية المسؤولية الكاملة عن حياة المضربين، معتبرةً أن سياسة الإهمال الطبي المتعمد التي تمارسها السلطات البريطانية ضد هؤلاء الناشطين، وتركهم يواجهون الموت البطيء، هي نسخة كربونية لما يمارسه الاحتلال الصهيوني المجرم بحق أسرانا الأبطال، مما يؤكد مجدداً أن القاتل والمستعمر واحد، والسياسة القمعية تجاه أنصار الحرية لا تتجزأ.
ورأـ الجبهة أن ما يتعرض له ناشطو "فلسطين أكشن" من اعتقال تعسفي دون محاكمة، وتصنيف حركتهم كمنظمة "إرهابية" هو انحدار أخلاقي وقانوني يعكس ارتهان حكومة "ستارمر" الكامل لإملاءات اللوبي الصهيوني النافذ، وعبرت عن استنكارها التناقض الفاضح للحكومة البريطانية؛ فبينما تتصنّع دعوات وقف الحرب، تتواطأ فعلياً مع إبادة غزة وتعرقل ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لمجرم الحرب نتنياهو دولياً، وفي الوقت ذاته تشن حملة قمعية ضد مواطنيها الشرفاء المنتفضين لإغلاق مصانع (إلبيت سيستمز) التي تقتل أطفالنا.
وأكدت الجبهة الشعبية على أن نضال الشعوب من أجل وقف هذه الهجمة ضد نشطاء الحرية هو نضال واحد، سواء في لندن أو في نيويورك أو برلين أو غزة، وإننا ندعو القوى الحية والأحرار في بريطانيا والعالم إلى تصعيد الضغط الشعبي والنقابي لإنقاذ حياة المضربين، والوقوف في وجه هذه الإجراءات القمعية التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء والقوانين الدولية التي تتغنى بها بريطانيا.
وختمت بيانها بالإشارة إلى أن الوقت ينفد، وحياة الناشطين المناضلين في خطر، مطالبةً بالإفراج الفوري عنهم، وإلغاء القرارات الجائرة بحظر نشاطهم السلمي المناهض للإبادة الجماعية.
أعربت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن تضامنها الكامل واللامحدود مع أبطال حركة "فلسطين أكشن" (Palestine Action) المضربين عن الطعام في السجون البريطانية، الذين دخلت حالتهم الصحية مرحلة الخطر الشديد؛ جرّاء إصرارهم على مواجهة منظومة القمع الاستعمارية بصدورهم الخاوية، دفاعاً عن الحق الفلسطيني ورفضاً لتواطؤ الحكومة البريطانية في حرب الإبادة.
وحمّلت الجبهة في بيان صدر عنها الأحد حكومة حزب العمال البريطانية المسؤولية الكاملة عن حياة المضربين، معتبرةً أن سياسة الإهمال الطبي المتعمد التي تمارسها السلطات البريطانية ضد هؤلاء الناشطين، وتركهم يواجهون الموت البطيء، هي نسخة كربونية لما يمارسه الاحتلال الصهيوني المجرم بحق أسرانا الأبطال، مما يؤكد مجدداً أن القاتل والمستعمر واحد، والسياسة القمعية تجاه أنصار الحرية لا تتجزأ.
ورأـ الجبهة أن ما يتعرض له ناشطو "فلسطين أكشن" من اعتقال تعسفي دون محاكمة، وتصنيف حركتهم كمنظمة "إرهابية" هو انحدار أخلاقي وقانوني يعكس ارتهان حكومة "ستارمر" الكامل لإملاءات اللوبي الصهيوني النافذ، وعبرت عن استنكارها التناقض الفاضح للحكومة البريطانية؛ فبينما تتصنّع دعوات وقف الحرب، تتواطأ فعلياً مع إبادة غزة وتعرقل ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لمجرم الحرب نتنياهو دولياً، وفي الوقت ذاته تشن حملة قمعية ضد مواطنيها الشرفاء المنتفضين لإغلاق مصانع (إلبيت سيستمز) التي تقتل أطفالنا.
وأكدت الجبهة الشعبية على أن نضال الشعوب من أجل وقف هذه الهجمة ضد نشطاء الحرية هو نضال واحد، سواء في لندن أو في نيويورك أو برلين أو غزة، وإننا ندعو القوى الحية والأحرار في بريطانيا والعالم إلى تصعيد الضغط الشعبي والنقابي لإنقاذ حياة المضربين، والوقوف في وجه هذه الإجراءات القمعية التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء والقوانين الدولية التي تتغنى بها بريطانيا.
وختمت بيانها بالإشارة إلى أن الوقت ينفد، وحياة الناشطين المناضلين في خطر، مطالبةً بالإفراج الفوري عنهم، وإلغاء القرارات الجائرة بحظر نشاطهم السلمي المناهض للإبادة الجماعية.
رغم المعاناة... أطفال غزة يتمسّكون بالدراسة
نسمة الحرازين
غزة| في الحروب، لا يُقاس الفقد فقط بعدد الأبنية المهدّمة، ولا بعدد الشهداء والمفقودين والأحبّة، ولا حتى بمساحات الأرض التي تحوّلت إلى ركام، بل يُقاس بعدد الطفولات التي سُرقت، الطفولة التي أُجبرت على النضوج قبل أوانها بعشرين عاماً. هنا، في مدينة غزة وشمالها، لم يعد الفقد حدثاً عابراً، بل حالة مستمرة تتجدّد مع كل قصف غائر، وكل نزوح، وكل ليلٍ طويل بلا أمان. داخل مدرسة ياسر النمروطي التعليمية الواقعة في مدينة خانيونس، التي تحوّلت إلى مساحة تعليمية مؤقتة للطلبة النازحين، التقينا بعدد من طلبة العلم القادمين من شمال قطاع غزة. طلبة فقدوا منازلهم ومدارسهم الأصلية وأصدقاء طفولتهم ، لكنهم تمسّكوا بالتعليم باعتباره خط الدفاع الأخير عن مستقبلهم، وفريضة صمود في حربٍ استهدفت الإنسان أولاً في وجوده وذاكرته ومعرفته وثقافته.
سمر: حين يتوقف العمر عند الخامسة عشرة لتصبح أم وأب في آن واحد
في أحد الصفوف البسيطة، تجلس سمر أبوحبل، فتاة هادئة الملامح، ترتدي جلباباً كحليّ اللون، وحجاباً أبيض ينسدل على كتفها، وحقيبة مدرسية متواضعة قربها. تجلس على سجادة صلاتها داخل الفصل، تشارك معلّم اللغة الإنجليزية بتفاعلٍ لافت، وتحاول أن تكون طالبة عادية، رغم أن حياتها لم تعد كذلك منذ زمن. تقول سمر بصوتٍ منخفض وهي تكفكف دموعها: «توقّف عمري عند الخامسة عشرة… حيث ولدت بذلك العمر ليس في السنوات، بل في المسؤولية».
لم تكن سمر، البالغة من العمر اليوم 17 عاماً، تتخيّل أن حياتها ستنقسم إلى «ما قبل» و«ما بعد» بهذه القسوة. منذ أن فقدت والدها عام 2021، بدأت تشعر بثقل الدور الجديد الذي فُرض عليها، لكنها لم تكن تعلم أن الحرب ستسرّع كل شيء، وستجعلها عمود العائلة الوحيد في لحظة واحدة بعد أن كانت المدللة سمر نازحة من بيت لاهيا شمالي غزة.
صمدت مع عائلتها في الشمال طوال الأشهر الأولى من الحرب 2023 ، رغم الخطر المتصاعد، قبل أن تتجدّد العمليات العسكرية بشكل عنيف في كانون الأول 2023. في الرابع عشر من ذلك الشهر، كانت العائلة تقيم في منطقة «بير النعجة» داخل شقة سكنية استأجرتها والدتها. تروي سمر تفاصيل تلك الليلة، وتقول إن الحي كان يعجّ بالحياة، ولم يتلقَّ سكان الحي أي تحذير بشأن تقدّم قوات الجيش الإسرائيلي. تقول وهي تحبس دموعها «في تلك اللحظة فقط، أدركت معنى وجود الأب… الأب الذي يرى الخطر قبل وقوعه، وينقذ عائلته كبطل خارق».
خلال القصف، احتُجز شقيقاها داخل مدرسة فلسطين، في بيت لاهيا شمال القطاع، فيما تعرّضت الشقة المستأجرة لأربع قذائف مدفعية مباشرة. سقطت الأم من الطابق الثالث، وأصيبت بإصابات بالغة في رأسها ومنطقة الحوض. تصف سمر المشهد بكلمات مثقلة بالوجع: «رأيت أمي غارقة بالدماء… ومنذ تلك اللحظة، لا نعلم مصيرها. لا نعرف إن كانت دُفنت أم لا. هي مفقودة من مفقودين الحرب».
أصيبت سمر بشظايا في أنحاء متفرقة من جسدها، فيما تعرّض شقيقاها الأصغر سعيد وميس لحروق من الدرجة الثالثة. وحدها الأخت الصغرى، سما، استطاعت النهوض من تحت الردم والغبار والنار، والبحث عن إخوتها وسط الفوضى والدخان والنيران. لم يكن هناك علاج، ولا دواء، ولا إسعاف فوري. تقول سمر «كنت الكبرى… كان عليّ أن أكون لهم كل شيء. كان عليّ أن أنهض، وأكفكف دموعي». تولّت سمر رعاية شقيقيها بنفسها، تنظف الجروح، وتضمّدها بما توفر، وتهدّئهما رغم انهيارها الداخلي.
رغم الفقد والنزوح والمجاعة، عادت سمر إلى مقاعد الدراسة. اليوم، هي طالبة ثانوية عامة – الفرع العلمي – في مدرسة ياسر النمروطي التابعة لمنظمة اليونيسف. خسرت عامين دراسيين بسبب جائحة كورونا عامي 2020-2021، ثم الحرب التي شنت على مدينة غزة، وفقدت مدرستها وصديقاتها، لكنها ما زالت تحلم بأن تصبح مترجمة. تختم حديثها وهي واقفة بثبات «أريد أن يسمع العالم قصتي… لأنني لست الأولى، ولا الأخيرة».
نبيل: الجسد الرياضي في ساحة الابادة الجماعية
بقسم الطلاب التقينا بنبيل شقورة، الطالب الرياضي، يحاول جاهداً الإمساك بالكرة. نبيل، من مواليد 2008، من أبراج الندى – بيت حانون، كان قبل الحرب نموذجاً للطالب المتفوق والنشيط. يروي نبيل تفاصيل حياته قبل الحرب: «كنت أستيقظ فجراً، أذهب للمدرسة، أعود لأدرس، ألعب كرة القدم، ثم أذهب مساءً لتسميع القرآن». ويضيف بابتسامة واثقة وهو يضع يده على قلبه: «خير جليس في الزمان هو القرآن». نزح نبيل مع والدته وإخوته إلى منزل جدته في بيت لاهيا، بينما كان والده يعمل في الأراضي المحتلة.
كانت الجدة تروي لهم قصص الأنبياء والصحابة، وتزرع فيهم حب فلسطين. لكن المشهد تبدّل فجأة، حين قُصف المنزل فوق رؤوس ساكنيه. وجد نبيل نفسه عالقاً تحت الأنقاض، محاطاً بالحجارة الإسمنتية الثقيلة وأسياخ الحديد، ومغطّى بالدماء. تأخر وصول الإسعاف 12 ساعة بسبب منع الاحتلال لاسعاف المصابين، ذلك بتاريخ 12 تشرين 2023، حيث كان نبيل مصاباً بشظية فولاذية كبيرة اخترقت منطقة القلب.
يقول «التفيت بنظري فوجدت أختي بين النيران وأنا حاولت إزالة الشظية بيدي… ثم نزفت بشدة، كأن مسورة ماء انفتحت». نُقل إلى مستشفى كمال عدوان، ثم إلى المستشفى الإندونيسي، حيث رافقه طبيب جراح حتى نهاية العلاج. يقول نبيل «عوضني الله بهذا الطبيب عن غياب والدي، لقد شعرت بالخوف والقلق عندما علمت بأن يدي يجب أن تبتر». اليوم، يعاني نبيل من شلل جزئي، ولا يستطيع الجلوس على الأرض لفترات طويلة، كما أنه يحتاج إلى كرسي داخل الصف لمتابعة تعليمه. ورغم ذلك، لا يزال يحلم. كان يحب الشعر، ويحفظ قصائد محمود درويش، حيث فاز بمسابقات مدرسية على مستوى وزراة التربية والتعليم ، وكان يحلم بأن يصبح عالم ذرة بسبب شغفه بالفيزياء والكيمياء.
بلال: حين يصبح الصوت ملجأً من الموت والفقد
داخل المدرسة نفسها، التقينا ببلال حمّاد، منشداً وقارئ قرآن لم يتجاوز الخامسة عشرة. في بداية الحرب، فقد بلال والده، ليجد نفسه فجأة مسؤولاً، مع أخيه الأكبر، عن رعاية الأم والإخوة. يقول بلال بصوتٍ حزين باكِ: «بعد استشهاد أبي، تمسّكت بالقرآن أكثر… كنا نجلس جلسات سمر، نقرأ الآيات ونتعلّم منها الصبر». لم يكن القرآن بالنسبة له نصاً دينياً فقط، بل وسيلة للبقاء. ومع نهاية اللقاء، أنشد بلال نشيداً دينياً بصوتٍ جهوري، خرج أكبر من عمره، عكس كياناً صغيراً محمّلاً بالفقد، لكنه متشبث بالأمل. بلال طالب في الصف العاشر، نازح يعيش مع عائلته داخل خيمة مهترئة على شاطئ بحر خانيونس، لكنه ما زال يرى في صوته رسالة، وفي التعليم طريقاً للنجاة.
التعليم جبهة صمود وتحدي
أوضح المرشد التربوي والأخصائي النفسي، د. ضياء أبو عون، داخل مكتبه الخاص بالمدرسة وحوله عدد من الطلاب ذو الحالات الخاصة «أن طلبة غزة بحاجة ماسّة إلى دعم نفسي وتربوي، بعد الانقطاع الطويل عن الدراسة، وفقدان الأهل، وتغيّر البيئة التعليمية»، مؤكداً أن السلوكيات العدوانية التي ظهرت لدى بعض الطلبة كانت متوقعة، ويتم التعامل معها عبر تدخلات فردية وجماعية. «نحاول أن نكون بديلاً عن أولياء الأمور، ونوفّر الحد الأدنى من الأمان النفسي»، يقول أبو عون، مشيراً إلى أن من أهداف الاحتلال كسر علاقة الطالب بالعلم والمدرسة.
ختاماً، بين سمر التي حملت دور الأب والأم، ونبيل الذي حوّل جسده الجريح إلى مساحة انتظار للحلم، وبلال الذي جعل صوته والقرآن ملجأَ من الفقد، تتقاطع الحكايات عند نقطة واحدة: الإصرار على التعليم رغم كل شيء. في غزة، يصبح الجلوس على مقعد دراسي انتصاراً صغيراً في معركة طويلة، ويغدو الكتاب فعل مقاومة، والصوت واللون والكلمة أدوات نجاة.
نسمة الحرازين
غزة| في الحروب، لا يُقاس الفقد فقط بعدد الأبنية المهدّمة، ولا بعدد الشهداء والمفقودين والأحبّة، ولا حتى بمساحات الأرض التي تحوّلت إلى ركام، بل يُقاس بعدد الطفولات التي سُرقت، الطفولة التي أُجبرت على النضوج قبل أوانها بعشرين عاماً. هنا، في مدينة غزة وشمالها، لم يعد الفقد حدثاً عابراً، بل حالة مستمرة تتجدّد مع كل قصف غائر، وكل نزوح، وكل ليلٍ طويل بلا أمان. داخل مدرسة ياسر النمروطي التعليمية الواقعة في مدينة خانيونس، التي تحوّلت إلى مساحة تعليمية مؤقتة للطلبة النازحين، التقينا بعدد من طلبة العلم القادمين من شمال قطاع غزة. طلبة فقدوا منازلهم ومدارسهم الأصلية وأصدقاء طفولتهم ، لكنهم تمسّكوا بالتعليم باعتباره خط الدفاع الأخير عن مستقبلهم، وفريضة صمود في حربٍ استهدفت الإنسان أولاً في وجوده وذاكرته ومعرفته وثقافته.
سمر: حين يتوقف العمر عند الخامسة عشرة لتصبح أم وأب في آن واحد
في أحد الصفوف البسيطة، تجلس سمر أبوحبل، فتاة هادئة الملامح، ترتدي جلباباً كحليّ اللون، وحجاباً أبيض ينسدل على كتفها، وحقيبة مدرسية متواضعة قربها. تجلس على سجادة صلاتها داخل الفصل، تشارك معلّم اللغة الإنجليزية بتفاعلٍ لافت، وتحاول أن تكون طالبة عادية، رغم أن حياتها لم تعد كذلك منذ زمن. تقول سمر بصوتٍ منخفض وهي تكفكف دموعها: «توقّف عمري عند الخامسة عشرة… حيث ولدت بذلك العمر ليس في السنوات، بل في المسؤولية».
لم تكن سمر، البالغة من العمر اليوم 17 عاماً، تتخيّل أن حياتها ستنقسم إلى «ما قبل» و«ما بعد» بهذه القسوة. منذ أن فقدت والدها عام 2021، بدأت تشعر بثقل الدور الجديد الذي فُرض عليها، لكنها لم تكن تعلم أن الحرب ستسرّع كل شيء، وستجعلها عمود العائلة الوحيد في لحظة واحدة بعد أن كانت المدللة سمر نازحة من بيت لاهيا شمالي غزة.
صمدت مع عائلتها في الشمال طوال الأشهر الأولى من الحرب 2023 ، رغم الخطر المتصاعد، قبل أن تتجدّد العمليات العسكرية بشكل عنيف في كانون الأول 2023. في الرابع عشر من ذلك الشهر، كانت العائلة تقيم في منطقة «بير النعجة» داخل شقة سكنية استأجرتها والدتها. تروي سمر تفاصيل تلك الليلة، وتقول إن الحي كان يعجّ بالحياة، ولم يتلقَّ سكان الحي أي تحذير بشأن تقدّم قوات الجيش الإسرائيلي. تقول وهي تحبس دموعها «في تلك اللحظة فقط، أدركت معنى وجود الأب… الأب الذي يرى الخطر قبل وقوعه، وينقذ عائلته كبطل خارق».
خلال القصف، احتُجز شقيقاها داخل مدرسة فلسطين، في بيت لاهيا شمال القطاع، فيما تعرّضت الشقة المستأجرة لأربع قذائف مدفعية مباشرة. سقطت الأم من الطابق الثالث، وأصيبت بإصابات بالغة في رأسها ومنطقة الحوض. تصف سمر المشهد بكلمات مثقلة بالوجع: «رأيت أمي غارقة بالدماء… ومنذ تلك اللحظة، لا نعلم مصيرها. لا نعرف إن كانت دُفنت أم لا. هي مفقودة من مفقودين الحرب».
أصيبت سمر بشظايا في أنحاء متفرقة من جسدها، فيما تعرّض شقيقاها الأصغر سعيد وميس لحروق من الدرجة الثالثة. وحدها الأخت الصغرى، سما، استطاعت النهوض من تحت الردم والغبار والنار، والبحث عن إخوتها وسط الفوضى والدخان والنيران. لم يكن هناك علاج، ولا دواء، ولا إسعاف فوري. تقول سمر «كنت الكبرى… كان عليّ أن أكون لهم كل شيء. كان عليّ أن أنهض، وأكفكف دموعي». تولّت سمر رعاية شقيقيها بنفسها، تنظف الجروح، وتضمّدها بما توفر، وتهدّئهما رغم انهيارها الداخلي.
رغم الفقد والنزوح والمجاعة، عادت سمر إلى مقاعد الدراسة. اليوم، هي طالبة ثانوية عامة – الفرع العلمي – في مدرسة ياسر النمروطي التابعة لمنظمة اليونيسف. خسرت عامين دراسيين بسبب جائحة كورونا عامي 2020-2021، ثم الحرب التي شنت على مدينة غزة، وفقدت مدرستها وصديقاتها، لكنها ما زالت تحلم بأن تصبح مترجمة. تختم حديثها وهي واقفة بثبات «أريد أن يسمع العالم قصتي… لأنني لست الأولى، ولا الأخيرة».
نبيل: الجسد الرياضي في ساحة الابادة الجماعية
بقسم الطلاب التقينا بنبيل شقورة، الطالب الرياضي، يحاول جاهداً الإمساك بالكرة. نبيل، من مواليد 2008، من أبراج الندى – بيت حانون، كان قبل الحرب نموذجاً للطالب المتفوق والنشيط. يروي نبيل تفاصيل حياته قبل الحرب: «كنت أستيقظ فجراً، أذهب للمدرسة، أعود لأدرس، ألعب كرة القدم، ثم أذهب مساءً لتسميع القرآن». ويضيف بابتسامة واثقة وهو يضع يده على قلبه: «خير جليس في الزمان هو القرآن». نزح نبيل مع والدته وإخوته إلى منزل جدته في بيت لاهيا، بينما كان والده يعمل في الأراضي المحتلة.
كانت الجدة تروي لهم قصص الأنبياء والصحابة، وتزرع فيهم حب فلسطين. لكن المشهد تبدّل فجأة، حين قُصف المنزل فوق رؤوس ساكنيه. وجد نبيل نفسه عالقاً تحت الأنقاض، محاطاً بالحجارة الإسمنتية الثقيلة وأسياخ الحديد، ومغطّى بالدماء. تأخر وصول الإسعاف 12 ساعة بسبب منع الاحتلال لاسعاف المصابين، ذلك بتاريخ 12 تشرين 2023، حيث كان نبيل مصاباً بشظية فولاذية كبيرة اخترقت منطقة القلب.
يقول «التفيت بنظري فوجدت أختي بين النيران وأنا حاولت إزالة الشظية بيدي… ثم نزفت بشدة، كأن مسورة ماء انفتحت». نُقل إلى مستشفى كمال عدوان، ثم إلى المستشفى الإندونيسي، حيث رافقه طبيب جراح حتى نهاية العلاج. يقول نبيل «عوضني الله بهذا الطبيب عن غياب والدي، لقد شعرت بالخوف والقلق عندما علمت بأن يدي يجب أن تبتر». اليوم، يعاني نبيل من شلل جزئي، ولا يستطيع الجلوس على الأرض لفترات طويلة، كما أنه يحتاج إلى كرسي داخل الصف لمتابعة تعليمه. ورغم ذلك، لا يزال يحلم. كان يحب الشعر، ويحفظ قصائد محمود درويش، حيث فاز بمسابقات مدرسية على مستوى وزراة التربية والتعليم ، وكان يحلم بأن يصبح عالم ذرة بسبب شغفه بالفيزياء والكيمياء.
بلال: حين يصبح الصوت ملجأً من الموت والفقد
داخل المدرسة نفسها، التقينا ببلال حمّاد، منشداً وقارئ قرآن لم يتجاوز الخامسة عشرة. في بداية الحرب، فقد بلال والده، ليجد نفسه فجأة مسؤولاً، مع أخيه الأكبر، عن رعاية الأم والإخوة. يقول بلال بصوتٍ حزين باكِ: «بعد استشهاد أبي، تمسّكت بالقرآن أكثر… كنا نجلس جلسات سمر، نقرأ الآيات ونتعلّم منها الصبر». لم يكن القرآن بالنسبة له نصاً دينياً فقط، بل وسيلة للبقاء. ومع نهاية اللقاء، أنشد بلال نشيداً دينياً بصوتٍ جهوري، خرج أكبر من عمره، عكس كياناً صغيراً محمّلاً بالفقد، لكنه متشبث بالأمل. بلال طالب في الصف العاشر، نازح يعيش مع عائلته داخل خيمة مهترئة على شاطئ بحر خانيونس، لكنه ما زال يرى في صوته رسالة، وفي التعليم طريقاً للنجاة.
التعليم جبهة صمود وتحدي
أوضح المرشد التربوي والأخصائي النفسي، د. ضياء أبو عون، داخل مكتبه الخاص بالمدرسة وحوله عدد من الطلاب ذو الحالات الخاصة «أن طلبة غزة بحاجة ماسّة إلى دعم نفسي وتربوي، بعد الانقطاع الطويل عن الدراسة، وفقدان الأهل، وتغيّر البيئة التعليمية»، مؤكداً أن السلوكيات العدوانية التي ظهرت لدى بعض الطلبة كانت متوقعة، ويتم التعامل معها عبر تدخلات فردية وجماعية. «نحاول أن نكون بديلاً عن أولياء الأمور، ونوفّر الحد الأدنى من الأمان النفسي»، يقول أبو عون، مشيراً إلى أن من أهداف الاحتلال كسر علاقة الطالب بالعلم والمدرسة.
ختاماً، بين سمر التي حملت دور الأب والأم، ونبيل الذي حوّل جسده الجريح إلى مساحة انتظار للحلم، وبلال الذي جعل صوته والقرآن ملجأَ من الفقد، تتقاطع الحكايات عند نقطة واحدة: الإصرار على التعليم رغم كل شيء. في غزة، يصبح الجلوس على مقعد دراسي انتصاراً صغيراً في معركة طويلة، ويغدو الكتاب فعل مقاومة، والصوت واللون والكلمة أدوات نجاة.

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire