ورد كاسوحة
يتعايش البلوز والجاز كمرآتين لواقعين اجتماعيين وسياسيين مختلفين: البلوز صوت الجنوب المثقل بإرث العبودية وشجن الحياة اليومية، والجاز نتاج لحظة تحديث واندماج رافقت صعود الحركات المدنية. بينهما تتباين البُنى الإيقاعية والوظائف الموسيقية، كما تتباين دلالات الهوية والانتماء
ثمّة فروقاتٌ كبيرة بين الجاز والبلوز، كنمطين موسيقيين مرتبطين بالموروث الثقافي للأميركيين من أصول أفريقية. في الأساس، بدأت موسيقى البلوز كتعبيٍر عن المعاناة التي يشعر بها السكّان الأفارقة الذين جُلبوا إلى الولايات المتحدة للعمل في المزارع والحقول والمنازل، المملوكة لإقطاعيين ومستوطنين بيض.
الشجن العميق الذي تختزنه هذه الموسيقى، بدا في ظلّ تبعات العبودية على نمط الإنتاج هناك، كمعادِل فنّي لا يوجد ما يماثِله، في الأنماط الموسيقية الأخرى التي كانت شائعة في الولايات المتحدة وأوروبا.
الأمر لا يرتبط بحجم الغضب الذي ينطوي عليه هذا الشكل من التعبير الغنائي، بل بالدينامية الإبداعية التي تجعل التعبير موسيقياً عن إيقاعات البلوز، ليس فقط مختلفاً عن سواه من أنماط، بل كذلك دافعاً لاستنباط وظائف جديدة للآلات الموسيقية، لم تكن موجودة بالمقدار نفسه، حين كان التعبير عن النغمات أو الإيقاعات، محصوراً بالسلّم الموسيقي التقليدي، سواءً الكلاسيكي منه، أو حتى المرتبط بالغناء الشعبي.
منظور زياد الرحباني في التعامل مع البلوز والجاز كمرجعيات موسيقية
في إحدى مقابلاته، يقول الراحل زياد الرحباني لدى سؤاله عن موسيقى الجاز التي عَمِلَ عليها لعقود، إنها ليست جاز بقدر ما هي خليط من أنماط موسيقية متعدّدة للأميركيين من أصول أفريقية، أهمها موسيقى «الريتم ان بلوز». مع العلم أنّ الأخيرة ليست «بلوز» بل مزيج من السول والفانك والجاز القديم، كما نعرفه من موسيقى تشارلي باركر وجون كولتراين وسواهما من عازفي الترومبيت والساكسوفون وآلات النفخ النحاسيّة الأخرى.
ثمّ يستطرد في تحليله التقني البالغ الدقّة لمميّزات موسيقى «الريتم ان بلوز» كما يحبّ تسميتها، فيقول إنها بالدرجة الأولى نتاج «تكسير» الموازير الموسيقية للموسيقى الكلاسيكية الغربية.
وهذا يعني ـــ بعيداً من الإيجاز الذي استخدمه الراحل في توصيفه ــ أنّ البنية الموسيقية للنمطين هي نفسها، ولكن مع إحداث اختلالات كبرى فيها، بحيث تصبح حصّة آلات النفخ النحاسيّة والإيقاعات أكبر، مع تراجعٍ واضح وكبير للوتريات، على رأسها الكمانات والتشيلوات المستخدمة بكثرة في الموسيقى الكلاسيكية، واستخدام مقنّن للبيانو والأرغن (الكيبورد)، بحيث يوظّفان في خدمة الارتجال الذي يقوم عليه هذا النوع من الموسيقى المتمرّدة على القوالب القديمة والكلاسيكية...
في مقابلة أخرى مع زياد، يُسأَل عن نوع موسيقى الجاز أو البلوز الذي يحبّه، بعد أن يتخلّل المقابلة عرض مقطوعة موسيقية شائعة لعازف البلوز الأسطوري، لويس أرمسترونغ، فيردّ الرجل بجواب مفاجئ للمذيع مفاده أنّه لا يستسيغ كثيراً موسيقى البلوز، ولا سيّما تلك الخاصّة بالأميركيين البيض، ويعطي موسيقى بوب ديلان كمثال (طبعاً موسيقى ديلان تنتمي إلى الروك والكاونتري أكثر منها إلى البلوز)، للتأكيد على الاغتراب الذي يشعر به تجاه هذا النوع من الموسيقى الأميركية.
المهمّ هنا ليست التفضيلات التي أعلَن عنها أحد أكثر الموسيقيين العرب اشتغالاً على موسيقى الأميركيين من أصول أفريقية، بقدر ما هي في التقاطع الذي يرى الرجل أنه حاصل بين البلوز والجاز وحتى الروك ذي الجذور الأفريقية، والموسيقى الشرقية أو الشرق عربية كما كان يفضل تسميتها المايسترو والموسيقار اللبناني وليد غلمية.
بالنسبة إلى زياد، تبدو موسيقى الروك، ومعها بالطبع الكاونتري التي تتحدّر من الجذر الأميركي الأبيض نفسه، ممتنعةً على الاستماع والذائقة العربيّين، على اعتبار أنها تقوم على نغمات وإيقاعات غير مُستساغة شرقياً، ليس فقط بسبب افتقارها إلى عنصر الربع صوت الذي يميّز المقامات والإيقاعات الشرقية، بل كذلك لأن التقنية المعتمَدة في التأليف والعزف لا توفّر للمستمع، «الألفة» التي يمكن أن يشعر بها، لدى سماعه أو تذوّقه مقطوعة من النوع نفسه، لكن بلمسة الأميركيين من أصول أفريقية. وهو ما يوفّر الأساس النقدي، حتى في الغرب، ولدى المراجع النقدية المعتمدة موسيقياً لديهم، للتمييز بين «الروك الأبيض» ونظيرِه «الأسود» إذا صحّ التعبير.
صعوبة الفصل بين الأنواع المنتمية إلى البلوز والجاز والروك
فعلياً، وبمعزل عن الفروقات بين هذين النوعين من موسيقى الروك أو حتى البلوز، فإنّ ثمّة تقاطعات بينهما أكبر بكثير مما يُعتقَد، وفي إطار يَصعُب على من هم، خارج الولايات المتحدة، حتى من الموسيقيين المحترفين، تبيّنه بدقّة.
حين نسمع مثلاً مقطوعة موسيقية من الميسيسيبي، أي في أقصى جنوب الولايات المتحدة، حيث تمتزج أنغام الكاونتري أو موسيقى الريف مع نظيرتها من البلوز والسول والفانك، لا نستطيع، بسهولة، إسباغ طابع عرقي على الغناء والعزف، فقد يكون الجينر أو النوع الموسيقي، أقرب إلى التعبيرات الفنّية «البيضاء»، ولكن من يعزفه أو يغنيه ليس أبيضَ والعكس صحيح أيضاً.
الاختلاط واستحالة الفصل هنا، هو من طبيعة الأشياء هناك، لأنّ ما بدأ كموسيقى سوداء مع البلوز والجاز ومتفرّعاتهما، انتهى، مع كلّ التهجين الذي حصل بفعل تبنّي البيض لغناء «السود» وتوسيع رقعته وإطاره، إلى حالة، يستحيل فيها فصل هذا عن ذاك، إلا لدى من يعرف بالفعل، أصول هذا النوع من الغناء والموسيقى، ومصادره الفعليّة.
بنية استخدام الآلات في البلوز والجاز
بالنسبة إلى الآلات الموسيقية التي يتكئ عليها التعبير الفنّي عن هذه الأنواع، فإنّ الغالب عليها هو آلات النفخ، لا سيّما في الجاز، إذ يَكثُر في هذا النوع أو الجينر استخدام آلات تعدّ محورية في العزف والتأليف، مثل الترومبيت والترومبون والساكسوفون... في المقابل، وبخلاف الجاز، لا تحتاج موسيقى البلوز، ومعها متفرّعاتها مثل السول والفانك، إلى كثيرٍ من آلات النفخ، على اعتبار أنّ البنية الموسيقية في البلوز، تعتمد أكثر على أسرة الغيتارات، لا سيّما الغيتار الكهربائي والغيتار بيز (وحتى الأكوستيك غيتار الكلاسيكي) اللذين يستحيل تأليف أو عزف أيّ مقطوعة أو أغنية بلوز من دون مساهمتهما، ليس فقط كآلة من ضمن آلات أخرى تتوزّع عليها المقطوعة أو البنية الموسيقية، بل كآلة تقود العزف والتأليف، إلى جانب آلات محورية أخرى مثل الكيبورد والدرامز الذي يتولّى عازفه ضبط الإيقاع، بحيث لا يخرج الارتجال الشائع جداً في البلوز، عبر العزف المنفرد على الكمان الكهربائي، عن حدود البنية المرسومة للمقطوعة أو الأغنية...
بالنسبة إلى موسيقى الجاز، يحلّ البيانو محلّ الغيتار الكهربائي، كآلة تقود العزف، ولا تتواجد الغيتارات إلا كآلات إسناد (باص)، فيما يزيد عدد آلات النفخ بشكل ملحوظ عن نظيرتها في البلوز، ويضطلع بعض آلات النفخ بدور قيادي في العزف والتأليف حتى، مثل الترومبيت وأحياناً الساكسوفون.
وهو ما يغيب تماماً عن موسيقى البلوز، بحكم عدم اتكالها على الأصوات النحاسية كثيراً، لمصلحة الصوت الآلي الذي تصدره الغيتارات، ويكون غالباً محورياً في تشكيل الهوية السمعية والموسيقية للبلوز، إلى درجة يبدو معها كأنه معادل للغناء الطربي في الموسيقى العربية أو الشرقية.
الملاحَظ هنا أنّ عازفي الغيتار الكهربائي، يكونون في حالة نشوة أثناء استطرادهم في العزف الارتجالي الشائع بكثرة في البلوز، وتزداد النشوة كلّما ازدادت وتيرة العزف ودقّته، مع تصاعد الأصوات التي يصدرها الغيتار. وغالباً ما تكون هذه الفقرة هي لحظة الذروة أثناء الحفلة المقدّمة، وتنتهي غالباً بتصفيق شديد من الجمهور كتعبيرٍ عن الامتنان للعازف على لحظة الذروة «النشووية» التي أوصلهم إليها عزفه.
«التطريب» بين البلوز والموسيقى الشرقية
يذكّرنا ذلك إلى حدٍّ بعيد، بلحظات انتشاءٍ مماثلة، ولكن في سياق التذوّق للطرب الشرقي، ولا سيّما مع غناء أم كلثوم وصباح فخري، وتحديداً في اللحظات التي يصل فيها جمهور «الستّ» إلى مرحلة الذوبان في «المتعوية الغنائية» المقدَّمة منها.
حالات تكرَّرت في سياقات عدة داخل الغناء العربي، أبرزُها وصلات الرقص التي كان يقوم بها صباح فخري، ولدقائق أحياناً، حين تصل النشوة الغنائية به إلى حدودٍ، يمّحي فيها الفاصل بين الغناء والرقص. الوَجْد الشديد في الاستماع إلى الطرب هنا يقابله بهذا المعنى، تذوّق موسيقى البلوز هناك، وهو ما يضع هذا النوع من الموسيقى لدى شرائح كبيرة في وسط وجنوب الولايات المتحدة، في مرتبة تسبق الجاز أحياناً، لجهة درجة شيوعها وشعبيّتها العارمة، رغم أنها تنتمي موسيقياً، إلى حقبة غنائية قديمة وغير رائجة، على مستوى الأدوات المستخدمة في التأليف الشعري والموسيقي، وحتى في التقنيات الموسيقية والغنائية المستعمَلة.
شيوع البلوز وشعبيتها مقارنةً «بنخبوية الجاز»
اللكنة التي تَطغى على الغناء الأميركي للبلوز، هي لكنة جنوبية، وهذا يضيف إلى قِدَم الموسيقى وتقليديّتها، بُعداً آخر، فتصبح أنماط العزف القديمة والمعتّقة، متضافرة مع تكنيك شعري وغنائي، يقوم على استحضار مفردات قديمة أو جديدة ولكن بنبرة قديمة، بحيث يتأكّد الفارق، مع كلّ التحديث الحاصل للقالب الموسيقي المستخدَم بين هذا الجينر وسواه. أي لجهة تطعيم التركيب الشعري والموسيقي والغنائي، بمفردات وأدوات، لا يمكن الوقوع عليها في غير موسيقى البلوز، رغم أنّ الجاز كنوع أو جينر، يُعدّ أغنى بكثير، لجهة التركيب الموسيقي واللحني، ولكن حداثته الشديدة بالمقارنة مع البلوز، تُبقيه في حيّز، أقلَّ شيوعاً وشعبيةً وأكثرَ نخبويةً والتصاقاً بحقبات زمنية سابقة...
موسيقى الجاز هي أكثر التصاقاً بحقبة الخمسينيات، مقارنةً بالبلوز التي لا تزال تُعيد إنتاج نفسها حتى الآن، وهي المرحلة التي شهدت صعود أبرز رموز هذا الجينر أو النوع الموسيقي، مثل مايلز ديفيس وتشارلي باركر وديزي غليسبي وجون كولتراين وآخرين.
البُعد السياسي لصعود الجاز وهيمنته فنّياً وثقافياً
الحقبة الذهبية للجاز في الخمسينيات وبداية الستينيات ارتبطت بصعود الرأسمالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الصعيد السياسي الداخلي، كانت حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ في أوجها، أيضاً.
تطلّب الاقتران بين نهضة الرأسمالية الأميركية وبدء إدماج الأميركيين من أصول أفريقية، بالحياة السياسية والاجتماعية هناك، من بوابة الحقوق المدنية، إنتاج سرديّة فنية، تكون الغَلَبة فيها لأبناء هذه الشرائح الاجتماعية والعرقية، بحيث تكون صدارتهم لهذه الموجة أو الطفرة مدخلاً، لبلورة إجماع وطني من البوابة الإبداعية، على أمل الانتهاء من مسألة التمييز العرقي، والخلاص نهائياً من رواسب مرحلة العبودية داخل الثقافة السياسية والاجتماعية الأميركية...
توسيع قاعدة هذا الجينر، كان نتاجاً سياسياً لهذه المعادلة، أكثر منه إفرازاً فنياً بحتاً، لكنه في المحصلة، وضَعَ الجاز على رأس هرم الأنواع الموسيقية، التي حظيت بالاعتراف والتكريس الرسمي والشعبي، إلى درجة بدا فيها أنّ ثمّة تنافساً بين الموسيقيين والمغنين الأميركيين المكرّسين، على تقديم نسخ مختلفة من الجاز، وليس فقط النسخة الأفروأميركية منه.
في مقابل أداء مايلز ديفيس وديزي غليسبي وتشارلي باركر، كان ثمّة معادل «أبيض» للجاز ذي الجذور الأفريقية، تبوأه فرانك سيناترا، وتم تعديل الذائقة الفنية السائدة بموجبه، لتتناسب مع التعدّدية الفنّية والغنائية، التي جعلت هيمنة الجاز فنياً، على مجمل الأنواع الأخرى، مشروطةً بتطعيمه «بنكهة بيضاء» تنفي عنه الطابع العرقي، وتضعه في مقدّمة الأنواع الموسيقية التي حصلت فيها «المساواة التامّة» بين البيض و «السود».
وهي صيغة من «الصوابية السياسية»، سبقت بعقود صعود اليسار الثقافي هناك، وأرست معادلة فنية، كانت غائبة عن حقل التعبير الثقافي والفنّي، طوال مرحلة هيمنة «البيض» على أنماط التعبير الإبداعية في الولايات المتحدة.
البلوز كتعبير موسيقي عن ثقافة الجنوب الأميركي
خلافاً للجاز الذي تزامَنَ صعوده مع بواكير الحداثة السياسية والثقافية في الولايات المتحدة، فإنّ موسيقى البلوز، بتعبيراتها المختلفة، لا تبدو تقليديةً أكثر فحسب، بل أيضاً تتحدّر جغرافياً من ولايات، كانت في معظمها جزءاً من الكونفيدرالية الأميركية في الجنوب.
هناك، حيث سادَت ثقافة العبودية لعقودٍ طويلة، قبل أن تنتهي تدريجاً مع بدايات وأواسط القرن العشرين، كان التعبير الفنّي، ولا سيّما الغنائي، عن هويّة المنطقة، مزيجاً من متناقضات عدة. فاللكنة التي تطَغى على الشعر الغنائي المُستخدَم في موسيقى البلوز هي لكنة جنوبية، وهذا يعني أنّ الأميركيين من أصول أفريقية الذين جَلَبوا هذا النوع من الموسيقى معهم، حين سِيقوا من القارّة السمراء في مرحلة العبودية، أسهموا عبر هذه الصياغة الفنّية في إدماج اللغة المحلّية للمستوطنين البيض بالإيقاعات الخاصّة بالبلوز.
لنصبح إزاء معادلة، تكون فيها اللغة المحلّية المغرِقة في «بياضها» محمولةً على إيقاعات لا تنتمي تماماً إلى المنطقة، لكنها تحوّلت مع الوقت، إلى لغة الجنوبيين الفنّية المطلَقة، إلى درجة تحوّلت معها موسيقى البلوز، بفعل عمق تعبيرها عن ثقافة الجنوب الأميركي، إلى الهويّة الفعلية لسكّان تلك البقعة من أميركا الشمالية، بعد اندثار «هويّتهم السياسية» مع انتهاء الحرب الأهلية وتفكّك نظامهم الكونفيدرالي الأبيض لمصلحة الشمال الأكثر اختلاطاً وتعدّدية وكوزموبوليتية.
قابلية البلوز للتطوّر مقارنةً بموسيقى الريف
ثمّة تفصيل تقني يؤكّد على هذا التداخل بين «الهويات الثقافية» إذا صحّ التعبير ضمن موسيقى البلوز، يتمثّل في الاختلاط الشديد بين إيقاعات البلوز والكاونتري، أي موسيقى الريف. بعد توسيع رقعة البلوز ميوزيك الاجتماعية وخروجها عن إطار عزف الأميركيين من أصل أفريقي، أصبحت قادرة، ليس فقط على استيعاب أنماط موسيقية «بيضاء»، بل كذلك على تطويرها وإعادة إنتاجها، إلى درجة أنها النمط الموسيقي الوحيد بعد الجاز والروك، الذي استطاع الاستمرار وهضم كلّ الأنماط التي أُدمجت به بعد فقدانها رقعة الانتشار السابقة، وأهمّ هذه الأنواع، موسيقى الريف أو الكاونتري ميوزيك.
بالنسبة إلى العزف، توقّفت موسيقى الكاونتري عن التطوّر لأنّ بنيتها تقوم على نغمة أو ميلودي واحدة تتكرّر باستمرار، بين المذهب والكوبليهات التي تعقبه.
الرتابة في العزف والغناء وحتى في التأليف، وضعتها على حِدة بين الأنواع الموسيقية الأخرى، لكنها أفقدتها في مقابل هذه الاستثنائية أو الميزة، القدرة على مجاراة التطوّر الموسيقي الحاصل في الأنواع الموسيقية الأخرى، مثل الروك والجاز، وحتى البلوز نفسه. هكذا بقيَت كما نعرفها مع رموز أيقونية وأسطورية مثل جوني كاش وجون براين وسواهما الكثير.
في المقابل، فإنّ قابلية البلوز على التطوّر، لا سيّما حين غادر الحساسية السوداء الصرفة، لمصلحة التهجين في التأليف والعزف، جعلته يستوعب موسيقى الكاونتري ضمن منظومته الخاصّة بالعزف، قبل أن يُعيد إنتاجها، مع الجيل الجديد من مغني ومغنيات البلوز، الذين ينتمون في معظمهم إلى الأكثرية البيضاء.
هؤلاء وسواهم لم يعودوا يستعملون الغيتار الكلاسيكي (الأكوستك) أثناء عزفهم لموسيقى الكاونتري ضمن توزيع «بلوزي» إذا صحّ التعبير، بل غدت قيادة نظيره الكهربائي للفرقة أثناء عزف مقطوعة أو أغنية الكاونتري، مدخلاً ليس فقط لانتشارها أكثر ضمن بيئات مختلفة ومتنوّعة، بل أيضاً لتطويرها، وجَعلِها تواكب الحساسية والذائقة، الخاصّتين بالأجيال الجديدة. فهذه الأخيرة لم تعد تحرّكها الجمل الموسيقية القديمة للكاونتري، كونها باتت تعبيراً فنياً عن «زمن قديم» وغير قابل للتكرار من ضمن القوالب الموسيقية والغنائية القديمة بدورها.
يتعايش البلوز والجاز كمرآتين لواقعين اجتماعيين وسياسيين مختلفين: البلوز صوت الجنوب المثقل بإرث العبودية وشجن الحياة اليومية، والجاز نتاج لحظة تحديث واندماج رافقت صعود الحركات المدنية. بينهما تتباين البُنى الإيقاعية والوظائف الموسيقية، كما تتباين دلالات الهوية والانتماء
ثمّة فروقاتٌ كبيرة بين الجاز والبلوز، كنمطين موسيقيين مرتبطين بالموروث الثقافي للأميركيين من أصول أفريقية. في الأساس، بدأت موسيقى البلوز كتعبيٍر عن المعاناة التي يشعر بها السكّان الأفارقة الذين جُلبوا إلى الولايات المتحدة للعمل في المزارع والحقول والمنازل، المملوكة لإقطاعيين ومستوطنين بيض.
الشجن العميق الذي تختزنه هذه الموسيقى، بدا في ظلّ تبعات العبودية على نمط الإنتاج هناك، كمعادِل فنّي لا يوجد ما يماثِله، في الأنماط الموسيقية الأخرى التي كانت شائعة في الولايات المتحدة وأوروبا.
الأمر لا يرتبط بحجم الغضب الذي ينطوي عليه هذا الشكل من التعبير الغنائي، بل بالدينامية الإبداعية التي تجعل التعبير موسيقياً عن إيقاعات البلوز، ليس فقط مختلفاً عن سواه من أنماط، بل كذلك دافعاً لاستنباط وظائف جديدة للآلات الموسيقية، لم تكن موجودة بالمقدار نفسه، حين كان التعبير عن النغمات أو الإيقاعات، محصوراً بالسلّم الموسيقي التقليدي، سواءً الكلاسيكي منه، أو حتى المرتبط بالغناء الشعبي.
منظور زياد الرحباني في التعامل مع البلوز والجاز كمرجعيات موسيقية
في إحدى مقابلاته، يقول الراحل زياد الرحباني لدى سؤاله عن موسيقى الجاز التي عَمِلَ عليها لعقود، إنها ليست جاز بقدر ما هي خليط من أنماط موسيقية متعدّدة للأميركيين من أصول أفريقية، أهمها موسيقى «الريتم ان بلوز». مع العلم أنّ الأخيرة ليست «بلوز» بل مزيج من السول والفانك والجاز القديم، كما نعرفه من موسيقى تشارلي باركر وجون كولتراين وسواهما من عازفي الترومبيت والساكسوفون وآلات النفخ النحاسيّة الأخرى.
ثمّ يستطرد في تحليله التقني البالغ الدقّة لمميّزات موسيقى «الريتم ان بلوز» كما يحبّ تسميتها، فيقول إنها بالدرجة الأولى نتاج «تكسير» الموازير الموسيقية للموسيقى الكلاسيكية الغربية.
وهذا يعني ـــ بعيداً من الإيجاز الذي استخدمه الراحل في توصيفه ــ أنّ البنية الموسيقية للنمطين هي نفسها، ولكن مع إحداث اختلالات كبرى فيها، بحيث تصبح حصّة آلات النفخ النحاسيّة والإيقاعات أكبر، مع تراجعٍ واضح وكبير للوتريات، على رأسها الكمانات والتشيلوات المستخدمة بكثرة في الموسيقى الكلاسيكية، واستخدام مقنّن للبيانو والأرغن (الكيبورد)، بحيث يوظّفان في خدمة الارتجال الذي يقوم عليه هذا النوع من الموسيقى المتمرّدة على القوالب القديمة والكلاسيكية...
في مقابلة أخرى مع زياد، يُسأَل عن نوع موسيقى الجاز أو البلوز الذي يحبّه، بعد أن يتخلّل المقابلة عرض مقطوعة موسيقية شائعة لعازف البلوز الأسطوري، لويس أرمسترونغ، فيردّ الرجل بجواب مفاجئ للمذيع مفاده أنّه لا يستسيغ كثيراً موسيقى البلوز، ولا سيّما تلك الخاصّة بالأميركيين البيض، ويعطي موسيقى بوب ديلان كمثال (طبعاً موسيقى ديلان تنتمي إلى الروك والكاونتري أكثر منها إلى البلوز)، للتأكيد على الاغتراب الذي يشعر به تجاه هذا النوع من الموسيقى الأميركية.
المهمّ هنا ليست التفضيلات التي أعلَن عنها أحد أكثر الموسيقيين العرب اشتغالاً على موسيقى الأميركيين من أصول أفريقية، بقدر ما هي في التقاطع الذي يرى الرجل أنه حاصل بين البلوز والجاز وحتى الروك ذي الجذور الأفريقية، والموسيقى الشرقية أو الشرق عربية كما كان يفضل تسميتها المايسترو والموسيقار اللبناني وليد غلمية.
بالنسبة إلى زياد، تبدو موسيقى الروك، ومعها بالطبع الكاونتري التي تتحدّر من الجذر الأميركي الأبيض نفسه، ممتنعةً على الاستماع والذائقة العربيّين، على اعتبار أنها تقوم على نغمات وإيقاعات غير مُستساغة شرقياً، ليس فقط بسبب افتقارها إلى عنصر الربع صوت الذي يميّز المقامات والإيقاعات الشرقية، بل كذلك لأن التقنية المعتمَدة في التأليف والعزف لا توفّر للمستمع، «الألفة» التي يمكن أن يشعر بها، لدى سماعه أو تذوّقه مقطوعة من النوع نفسه، لكن بلمسة الأميركيين من أصول أفريقية. وهو ما يوفّر الأساس النقدي، حتى في الغرب، ولدى المراجع النقدية المعتمدة موسيقياً لديهم، للتمييز بين «الروك الأبيض» ونظيرِه «الأسود» إذا صحّ التعبير.
صعوبة الفصل بين الأنواع المنتمية إلى البلوز والجاز والروك
فعلياً، وبمعزل عن الفروقات بين هذين النوعين من موسيقى الروك أو حتى البلوز، فإنّ ثمّة تقاطعات بينهما أكبر بكثير مما يُعتقَد، وفي إطار يَصعُب على من هم، خارج الولايات المتحدة، حتى من الموسيقيين المحترفين، تبيّنه بدقّة.
حين نسمع مثلاً مقطوعة موسيقية من الميسيسيبي، أي في أقصى جنوب الولايات المتحدة، حيث تمتزج أنغام الكاونتري أو موسيقى الريف مع نظيرتها من البلوز والسول والفانك، لا نستطيع، بسهولة، إسباغ طابع عرقي على الغناء والعزف، فقد يكون الجينر أو النوع الموسيقي، أقرب إلى التعبيرات الفنّية «البيضاء»، ولكن من يعزفه أو يغنيه ليس أبيضَ والعكس صحيح أيضاً.
الاختلاط واستحالة الفصل هنا، هو من طبيعة الأشياء هناك، لأنّ ما بدأ كموسيقى سوداء مع البلوز والجاز ومتفرّعاتهما، انتهى، مع كلّ التهجين الذي حصل بفعل تبنّي البيض لغناء «السود» وتوسيع رقعته وإطاره، إلى حالة، يستحيل فيها فصل هذا عن ذاك، إلا لدى من يعرف بالفعل، أصول هذا النوع من الغناء والموسيقى، ومصادره الفعليّة.
بنية استخدام الآلات في البلوز والجاز
بالنسبة إلى الآلات الموسيقية التي يتكئ عليها التعبير الفنّي عن هذه الأنواع، فإنّ الغالب عليها هو آلات النفخ، لا سيّما في الجاز، إذ يَكثُر في هذا النوع أو الجينر استخدام آلات تعدّ محورية في العزف والتأليف، مثل الترومبيت والترومبون والساكسوفون... في المقابل، وبخلاف الجاز، لا تحتاج موسيقى البلوز، ومعها متفرّعاتها مثل السول والفانك، إلى كثيرٍ من آلات النفخ، على اعتبار أنّ البنية الموسيقية في البلوز، تعتمد أكثر على أسرة الغيتارات، لا سيّما الغيتار الكهربائي والغيتار بيز (وحتى الأكوستيك غيتار الكلاسيكي) اللذين يستحيل تأليف أو عزف أيّ مقطوعة أو أغنية بلوز من دون مساهمتهما، ليس فقط كآلة من ضمن آلات أخرى تتوزّع عليها المقطوعة أو البنية الموسيقية، بل كآلة تقود العزف والتأليف، إلى جانب آلات محورية أخرى مثل الكيبورد والدرامز الذي يتولّى عازفه ضبط الإيقاع، بحيث لا يخرج الارتجال الشائع جداً في البلوز، عبر العزف المنفرد على الكمان الكهربائي، عن حدود البنية المرسومة للمقطوعة أو الأغنية...
بالنسبة إلى موسيقى الجاز، يحلّ البيانو محلّ الغيتار الكهربائي، كآلة تقود العزف، ولا تتواجد الغيتارات إلا كآلات إسناد (باص)، فيما يزيد عدد آلات النفخ بشكل ملحوظ عن نظيرتها في البلوز، ويضطلع بعض آلات النفخ بدور قيادي في العزف والتأليف حتى، مثل الترومبيت وأحياناً الساكسوفون.
وهو ما يغيب تماماً عن موسيقى البلوز، بحكم عدم اتكالها على الأصوات النحاسية كثيراً، لمصلحة الصوت الآلي الذي تصدره الغيتارات، ويكون غالباً محورياً في تشكيل الهوية السمعية والموسيقية للبلوز، إلى درجة يبدو معها كأنه معادل للغناء الطربي في الموسيقى العربية أو الشرقية.
الملاحَظ هنا أنّ عازفي الغيتار الكهربائي، يكونون في حالة نشوة أثناء استطرادهم في العزف الارتجالي الشائع بكثرة في البلوز، وتزداد النشوة كلّما ازدادت وتيرة العزف ودقّته، مع تصاعد الأصوات التي يصدرها الغيتار. وغالباً ما تكون هذه الفقرة هي لحظة الذروة أثناء الحفلة المقدّمة، وتنتهي غالباً بتصفيق شديد من الجمهور كتعبيرٍ عن الامتنان للعازف على لحظة الذروة «النشووية» التي أوصلهم إليها عزفه.
«التطريب» بين البلوز والموسيقى الشرقية
يذكّرنا ذلك إلى حدٍّ بعيد، بلحظات انتشاءٍ مماثلة، ولكن في سياق التذوّق للطرب الشرقي، ولا سيّما مع غناء أم كلثوم وصباح فخري، وتحديداً في اللحظات التي يصل فيها جمهور «الستّ» إلى مرحلة الذوبان في «المتعوية الغنائية» المقدَّمة منها.
حالات تكرَّرت في سياقات عدة داخل الغناء العربي، أبرزُها وصلات الرقص التي كان يقوم بها صباح فخري، ولدقائق أحياناً، حين تصل النشوة الغنائية به إلى حدودٍ، يمّحي فيها الفاصل بين الغناء والرقص. الوَجْد الشديد في الاستماع إلى الطرب هنا يقابله بهذا المعنى، تذوّق موسيقى البلوز هناك، وهو ما يضع هذا النوع من الموسيقى لدى شرائح كبيرة في وسط وجنوب الولايات المتحدة، في مرتبة تسبق الجاز أحياناً، لجهة درجة شيوعها وشعبيّتها العارمة، رغم أنها تنتمي موسيقياً، إلى حقبة غنائية قديمة وغير رائجة، على مستوى الأدوات المستخدمة في التأليف الشعري والموسيقي، وحتى في التقنيات الموسيقية والغنائية المستعمَلة.
شيوع البلوز وشعبيتها مقارنةً «بنخبوية الجاز»
اللكنة التي تَطغى على الغناء الأميركي للبلوز، هي لكنة جنوبية، وهذا يضيف إلى قِدَم الموسيقى وتقليديّتها، بُعداً آخر، فتصبح أنماط العزف القديمة والمعتّقة، متضافرة مع تكنيك شعري وغنائي، يقوم على استحضار مفردات قديمة أو جديدة ولكن بنبرة قديمة، بحيث يتأكّد الفارق، مع كلّ التحديث الحاصل للقالب الموسيقي المستخدَم بين هذا الجينر وسواه. أي لجهة تطعيم التركيب الشعري والموسيقي والغنائي، بمفردات وأدوات، لا يمكن الوقوع عليها في غير موسيقى البلوز، رغم أنّ الجاز كنوع أو جينر، يُعدّ أغنى بكثير، لجهة التركيب الموسيقي واللحني، ولكن حداثته الشديدة بالمقارنة مع البلوز، تُبقيه في حيّز، أقلَّ شيوعاً وشعبيةً وأكثرَ نخبويةً والتصاقاً بحقبات زمنية سابقة...
موسيقى الجاز هي أكثر التصاقاً بحقبة الخمسينيات، مقارنةً بالبلوز التي لا تزال تُعيد إنتاج نفسها حتى الآن، وهي المرحلة التي شهدت صعود أبرز رموز هذا الجينر أو النوع الموسيقي، مثل مايلز ديفيس وتشارلي باركر وديزي غليسبي وجون كولتراين وآخرين.
البُعد السياسي لصعود الجاز وهيمنته فنّياً وثقافياً
الحقبة الذهبية للجاز في الخمسينيات وبداية الستينيات ارتبطت بصعود الرأسمالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى الصعيد السياسي الداخلي، كانت حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ في أوجها، أيضاً.
تطلّب الاقتران بين نهضة الرأسمالية الأميركية وبدء إدماج الأميركيين من أصول أفريقية، بالحياة السياسية والاجتماعية هناك، من بوابة الحقوق المدنية، إنتاج سرديّة فنية، تكون الغَلَبة فيها لأبناء هذه الشرائح الاجتماعية والعرقية، بحيث تكون صدارتهم لهذه الموجة أو الطفرة مدخلاً، لبلورة إجماع وطني من البوابة الإبداعية، على أمل الانتهاء من مسألة التمييز العرقي، والخلاص نهائياً من رواسب مرحلة العبودية داخل الثقافة السياسية والاجتماعية الأميركية...
توسيع قاعدة هذا الجينر، كان نتاجاً سياسياً لهذه المعادلة، أكثر منه إفرازاً فنياً بحتاً، لكنه في المحصلة، وضَعَ الجاز على رأس هرم الأنواع الموسيقية، التي حظيت بالاعتراف والتكريس الرسمي والشعبي، إلى درجة بدا فيها أنّ ثمّة تنافساً بين الموسيقيين والمغنين الأميركيين المكرّسين، على تقديم نسخ مختلفة من الجاز، وليس فقط النسخة الأفروأميركية منه.
في مقابل أداء مايلز ديفيس وديزي غليسبي وتشارلي باركر، كان ثمّة معادل «أبيض» للجاز ذي الجذور الأفريقية، تبوأه فرانك سيناترا، وتم تعديل الذائقة الفنية السائدة بموجبه، لتتناسب مع التعدّدية الفنّية والغنائية، التي جعلت هيمنة الجاز فنياً، على مجمل الأنواع الأخرى، مشروطةً بتطعيمه «بنكهة بيضاء» تنفي عنه الطابع العرقي، وتضعه في مقدّمة الأنواع الموسيقية التي حصلت فيها «المساواة التامّة» بين البيض و «السود».
وهي صيغة من «الصوابية السياسية»، سبقت بعقود صعود اليسار الثقافي هناك، وأرست معادلة فنية، كانت غائبة عن حقل التعبير الثقافي والفنّي، طوال مرحلة هيمنة «البيض» على أنماط التعبير الإبداعية في الولايات المتحدة.
البلوز كتعبير موسيقي عن ثقافة الجنوب الأميركي
خلافاً للجاز الذي تزامَنَ صعوده مع بواكير الحداثة السياسية والثقافية في الولايات المتحدة، فإنّ موسيقى البلوز، بتعبيراتها المختلفة، لا تبدو تقليديةً أكثر فحسب، بل أيضاً تتحدّر جغرافياً من ولايات، كانت في معظمها جزءاً من الكونفيدرالية الأميركية في الجنوب.
هناك، حيث سادَت ثقافة العبودية لعقودٍ طويلة، قبل أن تنتهي تدريجاً مع بدايات وأواسط القرن العشرين، كان التعبير الفنّي، ولا سيّما الغنائي، عن هويّة المنطقة، مزيجاً من متناقضات عدة. فاللكنة التي تطَغى على الشعر الغنائي المُستخدَم في موسيقى البلوز هي لكنة جنوبية، وهذا يعني أنّ الأميركيين من أصول أفريقية الذين جَلَبوا هذا النوع من الموسيقى معهم، حين سِيقوا من القارّة السمراء في مرحلة العبودية، أسهموا عبر هذه الصياغة الفنّية في إدماج اللغة المحلّية للمستوطنين البيض بالإيقاعات الخاصّة بالبلوز.
لنصبح إزاء معادلة، تكون فيها اللغة المحلّية المغرِقة في «بياضها» محمولةً على إيقاعات لا تنتمي تماماً إلى المنطقة، لكنها تحوّلت مع الوقت، إلى لغة الجنوبيين الفنّية المطلَقة، إلى درجة تحوّلت معها موسيقى البلوز، بفعل عمق تعبيرها عن ثقافة الجنوب الأميركي، إلى الهويّة الفعلية لسكّان تلك البقعة من أميركا الشمالية، بعد اندثار «هويّتهم السياسية» مع انتهاء الحرب الأهلية وتفكّك نظامهم الكونفيدرالي الأبيض لمصلحة الشمال الأكثر اختلاطاً وتعدّدية وكوزموبوليتية.
قابلية البلوز للتطوّر مقارنةً بموسيقى الريف
ثمّة تفصيل تقني يؤكّد على هذا التداخل بين «الهويات الثقافية» إذا صحّ التعبير ضمن موسيقى البلوز، يتمثّل في الاختلاط الشديد بين إيقاعات البلوز والكاونتري، أي موسيقى الريف. بعد توسيع رقعة البلوز ميوزيك الاجتماعية وخروجها عن إطار عزف الأميركيين من أصل أفريقي، أصبحت قادرة، ليس فقط على استيعاب أنماط موسيقية «بيضاء»، بل كذلك على تطويرها وإعادة إنتاجها، إلى درجة أنها النمط الموسيقي الوحيد بعد الجاز والروك، الذي استطاع الاستمرار وهضم كلّ الأنماط التي أُدمجت به بعد فقدانها رقعة الانتشار السابقة، وأهمّ هذه الأنواع، موسيقى الريف أو الكاونتري ميوزيك.
بالنسبة إلى العزف، توقّفت موسيقى الكاونتري عن التطوّر لأنّ بنيتها تقوم على نغمة أو ميلودي واحدة تتكرّر باستمرار، بين المذهب والكوبليهات التي تعقبه.
الرتابة في العزف والغناء وحتى في التأليف، وضعتها على حِدة بين الأنواع الموسيقية الأخرى، لكنها أفقدتها في مقابل هذه الاستثنائية أو الميزة، القدرة على مجاراة التطوّر الموسيقي الحاصل في الأنواع الموسيقية الأخرى، مثل الروك والجاز، وحتى البلوز نفسه. هكذا بقيَت كما نعرفها مع رموز أيقونية وأسطورية مثل جوني كاش وجون براين وسواهما الكثير.
في المقابل، فإنّ قابلية البلوز على التطوّر، لا سيّما حين غادر الحساسية السوداء الصرفة، لمصلحة التهجين في التأليف والعزف، جعلته يستوعب موسيقى الكاونتري ضمن منظومته الخاصّة بالعزف، قبل أن يُعيد إنتاجها، مع الجيل الجديد من مغني ومغنيات البلوز، الذين ينتمون في معظمهم إلى الأكثرية البيضاء.
هؤلاء وسواهم لم يعودوا يستعملون الغيتار الكلاسيكي (الأكوستك) أثناء عزفهم لموسيقى الكاونتري ضمن توزيع «بلوزي» إذا صحّ التعبير، بل غدت قيادة نظيره الكهربائي للفرقة أثناء عزف مقطوعة أو أغنية الكاونتري، مدخلاً ليس فقط لانتشارها أكثر ضمن بيئات مختلفة ومتنوّعة، بل أيضاً لتطويرها، وجَعلِها تواكب الحساسية والذائقة، الخاصّتين بالأجيال الجديدة. فهذه الأخيرة لم تعد تحرّكها الجمل الموسيقية القديمة للكاونتري، كونها باتت تعبيراً فنياً عن «زمن قديم» وغير قابل للتكرار من ضمن القوالب الموسيقية والغنائية القديمة بدورها.
حملة سعودية مضادّة جنوباً: حضرموت والمهرة حصّتنا
لقمان عبد الله
بدأت السعودية، في الساعات الماضية، حملة تصعيد متعدّدة الأوجه ضدّ سيطرة «المجلس الانتقالي الجنوبي» على محافظتَي حضرموت والمهرة، شرقي اليمن، في ما بدا استفاقة متأخّرة إلى حجم التحوّل الذي طرأ هناك، ومحاولة لاستدراك تهديد مباشر لمعادلة النفوذ التي حرصت الرياض على ترسيخها طوال السنوات الماضية. وفي هذا الإطار، جاء الاتصال الهاتفي العاجل بين وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، ونظيره الأميركي، ماركو روبيو، لينبئ بأنّ المملكة قرّرت التحوّل إلى المواجهة السياسية المفتوحة، بهدف إغلاق الباب أمام أي ترتيبات قد يكون من شأنها نقل مركز الثقل الأمني جنوباً، بعيداً عن دائرة تأثيرها.
وبالتوازي مع تلك الاتصالات السياسية، أطلق الإعلام السعودي حملة ضدّ ما قال إنها «محاولة لفرض أمر واقع» في المحافظتين، وذلك بعد أيام كانت فيها تغطية الأحداث أقرب إلى الحياد الحذر.
وشدّدت صحيفة «الشرق الأوسط» على «ضرورة إنهاء التوتر في شرق اليمن»، فيما نقلت صحيفة «المدينة» عن رئيس الوفد السعودي إلى حضرموت، اللواء محمد القحطاني، دعوته إلى خروج «الانتقالي» من الشرق؛ وحذّرت صحيفة «سبق»، بدورها، من خطوات «الانتقالي» الأحادية. أمّا كتّاب الرأي السعوديون فذهبوا أبعد من ما تقدّم، مؤكّدين أنّ المملكة «ترسم خطّاً سيادياً لا يُسمح بتجاوزه»، في إشارة واضحة إلى أنها تعتبر حضرموت والمهرة جزءاً من فضائها الأمني الحيوي، ومحاولة تغيير موازين القوى فيهما تحرّك يستدعي ردّاً صارماً. مع هذا، حافظت وسائل الإعلام السعودية على حذر واضح عند تناول الدور الإماراتي، متجنّبةً أي هجوم مباشر أو إشارات صريحة قد تُحرج أبو ظبي.
في الموازاة، سعى القحطاني إلى تهدئة المخاوف الجنوبية، مؤكّداً أنّ «قضية الجنوب قضية عادلة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها». وفي الوقت نفسه، جدّد موقف المملكة الثابت بالقول إنّ «السعودية تطالب بخروج كافة القوات التابعة للانتقالي من محافظتَي حضرموت والمهرة». وترسي مواقف المملكة السياسية معادلة واضحة أمام «الانتقالي»؛ فإذا كان الهدف المعلن هو إنهاء نفوذ «المنطقة العسكرية الأولى» المحسوبة على حزب «الإصلاح»، فإنّ هذا الهدف تحقّق فعلياً بعد انهيار تموضعها في وادي حضرموت. وبناءً على ذلك، تدفع الرياض في اتجاه انتشار «قوات درع الوطن» المموّلة من قبلها في حضرموت والمهرة، باعتبارها القوة البديلة من الطرفين.
غير أنّ «الانتقالي» يتعامل مع هذا الطرح بوصفه محاولة لإعادة هندسة المشهد العسكري في الشرق بطريقة تُقيّد نفوذه وتحدّ من قدرته على إدارة المحافظات الجنوبية. ولذا، يرفض تموضع «درع الوطن» بصيغته المطروحة، ويعدّه مساساً بما يسمّيه «حق الجنوب في إدارة أرضه وقواته». مع ذلك، أظهرت القيادات الجنوبية مرونة في الخطاب، بإبدائها استعدادها لـ«التعاون مع الحكومة الشرعية ضمن المجلس الرئاسي»، فيما استغرب آخرون خروج رئيس «المجلس القيادي»، رشاد العليمي، ووزرائه من عدن ولجوءهم إلى الرياض، وهو ما يعكس رغبة واضحة في تهدئة المخاوف السعودية من انفصال أحادي الجانب أو فرض واقع جديد.
وفي الاتجاه نفسه، أكّد رئيس «الانتقالي»، عيدروس الزبيدي، عبر تصريحاته الأخيرة إلى «سكاي نيوز»، أنّ المجلس لا يستهدف تغيير موازين القوى على حساب السعودية، بل يركّز جهوده في إطار «المعركة الكبرى» ضدّ صنعاء، التي أكّد أنّ الهدف القادم هو تحريرها «سلماً أو حرباً». كما قدّم الزبيدي تحرّكه في الشرق باعتباره جزءاً من استراتيجية شاملة لوقف إمداد «الحوثيين»، لا خطوة لفرض أمر واقع محلّي أو إقليمي، مؤكّداً أنّ زمن المعارك الجانبية انتهى، ولافتاً إلى أنّ «الشريان الذي كان يغذّي الشمال من الجنوب قد قُطع بالكامل».
لقمان عبد الله
بدأت السعودية، في الساعات الماضية، حملة تصعيد متعدّدة الأوجه ضدّ سيطرة «المجلس الانتقالي الجنوبي» على محافظتَي حضرموت والمهرة، شرقي اليمن، في ما بدا استفاقة متأخّرة إلى حجم التحوّل الذي طرأ هناك، ومحاولة لاستدراك تهديد مباشر لمعادلة النفوذ التي حرصت الرياض على ترسيخها طوال السنوات الماضية. وفي هذا الإطار، جاء الاتصال الهاتفي العاجل بين وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، ونظيره الأميركي، ماركو روبيو، لينبئ بأنّ المملكة قرّرت التحوّل إلى المواجهة السياسية المفتوحة، بهدف إغلاق الباب أمام أي ترتيبات قد يكون من شأنها نقل مركز الثقل الأمني جنوباً، بعيداً عن دائرة تأثيرها.
وبالتوازي مع تلك الاتصالات السياسية، أطلق الإعلام السعودي حملة ضدّ ما قال إنها «محاولة لفرض أمر واقع» في المحافظتين، وذلك بعد أيام كانت فيها تغطية الأحداث أقرب إلى الحياد الحذر.
وشدّدت صحيفة «الشرق الأوسط» على «ضرورة إنهاء التوتر في شرق اليمن»، فيما نقلت صحيفة «المدينة» عن رئيس الوفد السعودي إلى حضرموت، اللواء محمد القحطاني، دعوته إلى خروج «الانتقالي» من الشرق؛ وحذّرت صحيفة «سبق»، بدورها، من خطوات «الانتقالي» الأحادية. أمّا كتّاب الرأي السعوديون فذهبوا أبعد من ما تقدّم، مؤكّدين أنّ المملكة «ترسم خطّاً سيادياً لا يُسمح بتجاوزه»، في إشارة واضحة إلى أنها تعتبر حضرموت والمهرة جزءاً من فضائها الأمني الحيوي، ومحاولة تغيير موازين القوى فيهما تحرّك يستدعي ردّاً صارماً. مع هذا، حافظت وسائل الإعلام السعودية على حذر واضح عند تناول الدور الإماراتي، متجنّبةً أي هجوم مباشر أو إشارات صريحة قد تُحرج أبو ظبي.
في الموازاة، سعى القحطاني إلى تهدئة المخاوف الجنوبية، مؤكّداً أنّ «قضية الجنوب قضية عادلة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها». وفي الوقت نفسه، جدّد موقف المملكة الثابت بالقول إنّ «السعودية تطالب بخروج كافة القوات التابعة للانتقالي من محافظتَي حضرموت والمهرة». وترسي مواقف المملكة السياسية معادلة واضحة أمام «الانتقالي»؛ فإذا كان الهدف المعلن هو إنهاء نفوذ «المنطقة العسكرية الأولى» المحسوبة على حزب «الإصلاح»، فإنّ هذا الهدف تحقّق فعلياً بعد انهيار تموضعها في وادي حضرموت. وبناءً على ذلك، تدفع الرياض في اتجاه انتشار «قوات درع الوطن» المموّلة من قبلها في حضرموت والمهرة، باعتبارها القوة البديلة من الطرفين.
غير أنّ «الانتقالي» يتعامل مع هذا الطرح بوصفه محاولة لإعادة هندسة المشهد العسكري في الشرق بطريقة تُقيّد نفوذه وتحدّ من قدرته على إدارة المحافظات الجنوبية. ولذا، يرفض تموضع «درع الوطن» بصيغته المطروحة، ويعدّه مساساً بما يسمّيه «حق الجنوب في إدارة أرضه وقواته». مع ذلك، أظهرت القيادات الجنوبية مرونة في الخطاب، بإبدائها استعدادها لـ«التعاون مع الحكومة الشرعية ضمن المجلس الرئاسي»، فيما استغرب آخرون خروج رئيس «المجلس القيادي»، رشاد العليمي، ووزرائه من عدن ولجوءهم إلى الرياض، وهو ما يعكس رغبة واضحة في تهدئة المخاوف السعودية من انفصال أحادي الجانب أو فرض واقع جديد.
وفي الاتجاه نفسه، أكّد رئيس «الانتقالي»، عيدروس الزبيدي، عبر تصريحاته الأخيرة إلى «سكاي نيوز»، أنّ المجلس لا يستهدف تغيير موازين القوى على حساب السعودية، بل يركّز جهوده في إطار «المعركة الكبرى» ضدّ صنعاء، التي أكّد أنّ الهدف القادم هو تحريرها «سلماً أو حرباً». كما قدّم الزبيدي تحرّكه في الشرق باعتباره جزءاً من استراتيجية شاملة لوقف إمداد «الحوثيين»، لا خطوة لفرض أمر واقع محلّي أو إقليمي، مؤكّداً أنّ زمن المعارك الجانبية انتهى، ولافتاً إلى أنّ «الشريان الذي كان يغذّي الشمال من الجنوب قد قُطع بالكامل».
رفع عقوبات «قيصر» عن سوريا | أميركا للعرب: اخضعوا تحيوا
عامر علي
أقرّ مجلس النواب الأميركي التعديل الأخير الذي يفضي إلى إلغاء قانون العقوبات المفروض على سوريا (قانون قيصر)، وذلك بعد سلسلة من التعديلات التي حوّلت الشروط السابقة التي كان يتضمّنها إلى ما يشبه «الأمنيات». وسبقت إقرارَ القانون، الذي مرّره المجلس ليل الأربعاء - الخميس، بنتيجة 312 مؤيداً مقابل 112 معترضاً، سجالاتٌ بين مؤيّدي الإلغاء ومعارضيه، خضع المشروع على إثرها لتعديلات عديدة، وصولاً إلى صيغة أبقت على مجموعة من الشروط التي تتيح إعادة تفعيل القانون في حال مخالفتها، ومن بينها «ضمان أمن الجوار» و«محاربة الإرهاب» و«المساعدة في تفكيك ما تبقّى من أسلحة كيميائية». وبإلغاء هذه الصيغة أيضاً، يُغلَق الباب أمام إعادة فرض العقوبات، إلا في حال إصدار قانون جديد يمرّ عبر سلسلة طويلة من الإجراءات والمناقشات وموافقة مجلسَي النواب والشيوخ، في حين بات الأمر مقتصراً حالياً على طلبات غير ملزمة موجّهة إلى السلطات الانتقالية في ما يتصل بالملفات المشار إليها أعلاه.
وإذ أُدرج القانون ضمن موازنة الدفاع، فهو سيُحال إلى مجلس الشيوخ خلال الأيام المقبلة، حيث من المتوقّع أن ينال الموافقة في ظل وجود أغلبية من الجمهوريين، على أن يصل بعد ذلك إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يأمل توقيعه قبل نهاية العام الحالي. وقال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، براين ماست - الذي كان من أبرز معارضي رفع العقوبات قبل أن يُجري لقاءً مع الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، خلال زيارة الأخير لواشنطن حيث التقى ترامب الشهر الماضي -، : «سنزيل العقوبات عن سوريا والتي كانت أساساً بسبب نظام بشار الأسد وتعذيبه لشعبه»، مضيفاً، خلال جلسة مجلس النواب، «سنمنح سوريا فرصة للمضيّ قدماً في مستقبل ما بعد الأسد».
ومنذ إقراره عام 2019، وتسميته بـ«قانون قيصر» نسبة إلى الشخص الذي قام بتسريب آلاف الصور لضحايا تمّ إعدامهم أو فقدوا حياتهم في المعتقلات السورية، شكّل القانون إحدى أبرز أدوات الضغط الأميركي على سوريا وشعبها؛ إذ فقدت البلاد فعلياً معظم قدراتها على التواصل الاقتصادي الخارجي بسببه، في ظلّ وجود بنود فيه تسمح بفرض عقوبات على أي جهة تتعامل مع دمشق. وبعد الوساطة التي قادتها السعودية مع ترامب، قام الأخير برفع العقوبات الرئاسية، ومنح استثناء من العقوبات لمرتين متتاليتين، مدة كل منهما 6 أشهر. غير أن هذه الاستثناءات لم تسمح بتدفّق الاستثمارات إلى سوريا، في ظلّ المخاوف المستمرة من قِبل المستثمرين من إمكانية عودة العقوبات في أيّ لحظة.
وفي بيانها الذي رحّبت فيه بقرار مجلس النواب، اعتبرت الخارجية السورية أن التصويت وما سيليه من تصويت مرتقب في مجلس الشيوخ الأسبوع المقبل، يؤسّس كلّ ذلك «لمرحلة من التحسّن الملموس في حركة الاستيراد وتوافر المواد الأساسية والمستلزمات الطبية، وتهيئة الظروف لمشاريع إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد الوطني». وأضافت: «يمثّل هذا التطور محطة محورية في إعادة بناء الثقة وفتح مسار جديد للتعاون، بما يمهّد لتعافٍ اقتصادي أوسع وعودة الفرص التي حُرم منها الشعب السوري لسنوات بفعل العقوبات».
وعلى رغم أن إلغاء القانون يوفّر بالفعل دفعة كبيرة متوقّعة في اتجاه إعادة تدفّق الاستثمارات، إلا أن جملة من الظروف والعوامل لا تزال تؤثّر على هذا المسار، أبرزها غياب بنية تشريعية حقيقية تسمح للمستثمرين ببناء استثماراتهم، بالإضافة إلى عدم موثوقية الاستقرار الأمني، إذ يأتي هذا الإلغاء في ظلّ استمرار الأزمات، سواء في المنطقة الجنوبية حيث تحاول إسرائيل خلق خريطة سيطرة جديدة، وتدعم «الإدارة الذاتية» الدرزية الناشئة في السويداء - بعد المجازر التي طاولت الدروز على أيدي فصائل تابعة أو مرتبطة بالسلطات الانتقالية، أو في المنطقة الشمالية الشرقية حيث يواجه ملف اندماج «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في هياكل السلطة الانتقالية - وفق اتفاق 10 آذار الموقّع بين الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي - حالة استعصاء متواصلة، جرّاء تباين المواقف بين الطرفين على جملة من الملفات، أبرزها شكل الحكم في سوريا.
على أن الولايات المتحدة، التي قامت، فور سقوط النظام، بتبنّي السلطات الانتقالية، وتجاهلت تاريخها المرتبط بتنظيم «القاعدة»، كما شطبت «هيئة تحرير الشام» من قوائمها الخاصة بالإرهاب ودفعت نحو شطب اسمَي الشرع ووزير داخليته أنس خطاب من قوائم الإرهاب في مجلس الأمن، تحاول فعلياً - منذ أن أصبحت القوة المسيطرة على الملف السوري، عبر مبعوثها الخاص توماس برّاك -، تقديم «نموذج» لـ«الدعم» الذي يمكن أن تقدّمه للدول أو الجماعات التي تخضع لها. ويفسّر هذا الأمر الإصرار الأميركي المستمر على دعم سوريا، وتصديرها بوصفها قصة نجاح سياسية في بلد كان حليفاً تاريخياً لإيران وممراً للأسلحة نحو المقاومة، قبل سقوط النظام السابق.
ويخالف النموذج الأميركي الذي تحاول واشنطن رسمه في سوريا، العديد من النماذج السابقة الفاشلة، سواء في أفغانستان أو حتى العراق، خصوصاً أن النظام السوري السابق لم يسقط بعمل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ويمنح ذلك واشنطن مساحة أكبر للعمل السياسي باعتبارها «دولة داعمة»، وهو يولّد لديها أملاً، على ما يبدو، في أن يشجّع «النموذج السوري» قوىً أخرى على السير في الطريق نفسه الذي سلكه الشرع، من دون أن تكون ضامنة بالضرورة لنجاح هذا النموذج.
وبعد الإعلان عن تمرير مجلس النواب قرار إلغاء العقوبات، خرج آلاف السوريين إلى الشوارع، سواء من مؤيّدي السلطات الانتقالية أو حتى معارضيها، احتفالاً، وذلك لما تسبّبت به تلك العقوبات من جروح عميقة، راكمت بالتوازي مع ظروف الحرب، ظروفاً معيشية سيئة. وهي ظروف يأمل السوريون في أن يتم طيّها بشكل حقيقي ونهائي، بعيداً عن بازارات السياسة واستثماراتها.
عامر علي
أقرّ مجلس النواب الأميركي التعديل الأخير الذي يفضي إلى إلغاء قانون العقوبات المفروض على سوريا (قانون قيصر)، وذلك بعد سلسلة من التعديلات التي حوّلت الشروط السابقة التي كان يتضمّنها إلى ما يشبه «الأمنيات». وسبقت إقرارَ القانون، الذي مرّره المجلس ليل الأربعاء - الخميس، بنتيجة 312 مؤيداً مقابل 112 معترضاً، سجالاتٌ بين مؤيّدي الإلغاء ومعارضيه، خضع المشروع على إثرها لتعديلات عديدة، وصولاً إلى صيغة أبقت على مجموعة من الشروط التي تتيح إعادة تفعيل القانون في حال مخالفتها، ومن بينها «ضمان أمن الجوار» و«محاربة الإرهاب» و«المساعدة في تفكيك ما تبقّى من أسلحة كيميائية». وبإلغاء هذه الصيغة أيضاً، يُغلَق الباب أمام إعادة فرض العقوبات، إلا في حال إصدار قانون جديد يمرّ عبر سلسلة طويلة من الإجراءات والمناقشات وموافقة مجلسَي النواب والشيوخ، في حين بات الأمر مقتصراً حالياً على طلبات غير ملزمة موجّهة إلى السلطات الانتقالية في ما يتصل بالملفات المشار إليها أعلاه.
وإذ أُدرج القانون ضمن موازنة الدفاع، فهو سيُحال إلى مجلس الشيوخ خلال الأيام المقبلة، حيث من المتوقّع أن ينال الموافقة في ظل وجود أغلبية من الجمهوريين، على أن يصل بعد ذلك إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي يأمل توقيعه قبل نهاية العام الحالي. وقال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، براين ماست - الذي كان من أبرز معارضي رفع العقوبات قبل أن يُجري لقاءً مع الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، خلال زيارة الأخير لواشنطن حيث التقى ترامب الشهر الماضي -، : «سنزيل العقوبات عن سوريا والتي كانت أساساً بسبب نظام بشار الأسد وتعذيبه لشعبه»، مضيفاً، خلال جلسة مجلس النواب، «سنمنح سوريا فرصة للمضيّ قدماً في مستقبل ما بعد الأسد».
ومنذ إقراره عام 2019، وتسميته بـ«قانون قيصر» نسبة إلى الشخص الذي قام بتسريب آلاف الصور لضحايا تمّ إعدامهم أو فقدوا حياتهم في المعتقلات السورية، شكّل القانون إحدى أبرز أدوات الضغط الأميركي على سوريا وشعبها؛ إذ فقدت البلاد فعلياً معظم قدراتها على التواصل الاقتصادي الخارجي بسببه، في ظلّ وجود بنود فيه تسمح بفرض عقوبات على أي جهة تتعامل مع دمشق. وبعد الوساطة التي قادتها السعودية مع ترامب، قام الأخير برفع العقوبات الرئاسية، ومنح استثناء من العقوبات لمرتين متتاليتين، مدة كل منهما 6 أشهر. غير أن هذه الاستثناءات لم تسمح بتدفّق الاستثمارات إلى سوريا، في ظلّ المخاوف المستمرة من قِبل المستثمرين من إمكانية عودة العقوبات في أيّ لحظة.
وفي بيانها الذي رحّبت فيه بقرار مجلس النواب، اعتبرت الخارجية السورية أن التصويت وما سيليه من تصويت مرتقب في مجلس الشيوخ الأسبوع المقبل، يؤسّس كلّ ذلك «لمرحلة من التحسّن الملموس في حركة الاستيراد وتوافر المواد الأساسية والمستلزمات الطبية، وتهيئة الظروف لمشاريع إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد الوطني». وأضافت: «يمثّل هذا التطور محطة محورية في إعادة بناء الثقة وفتح مسار جديد للتعاون، بما يمهّد لتعافٍ اقتصادي أوسع وعودة الفرص التي حُرم منها الشعب السوري لسنوات بفعل العقوبات».
وعلى رغم أن إلغاء القانون يوفّر بالفعل دفعة كبيرة متوقّعة في اتجاه إعادة تدفّق الاستثمارات، إلا أن جملة من الظروف والعوامل لا تزال تؤثّر على هذا المسار، أبرزها غياب بنية تشريعية حقيقية تسمح للمستثمرين ببناء استثماراتهم، بالإضافة إلى عدم موثوقية الاستقرار الأمني، إذ يأتي هذا الإلغاء في ظلّ استمرار الأزمات، سواء في المنطقة الجنوبية حيث تحاول إسرائيل خلق خريطة سيطرة جديدة، وتدعم «الإدارة الذاتية» الدرزية الناشئة في السويداء - بعد المجازر التي طاولت الدروز على أيدي فصائل تابعة أو مرتبطة بالسلطات الانتقالية، أو في المنطقة الشمالية الشرقية حيث يواجه ملف اندماج «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في هياكل السلطة الانتقالية - وفق اتفاق 10 آذار الموقّع بين الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي - حالة استعصاء متواصلة، جرّاء تباين المواقف بين الطرفين على جملة من الملفات، أبرزها شكل الحكم في سوريا.
على أن الولايات المتحدة، التي قامت، فور سقوط النظام، بتبنّي السلطات الانتقالية، وتجاهلت تاريخها المرتبط بتنظيم «القاعدة»، كما شطبت «هيئة تحرير الشام» من قوائمها الخاصة بالإرهاب ودفعت نحو شطب اسمَي الشرع ووزير داخليته أنس خطاب من قوائم الإرهاب في مجلس الأمن، تحاول فعلياً - منذ أن أصبحت القوة المسيطرة على الملف السوري، عبر مبعوثها الخاص توماس برّاك -، تقديم «نموذج» لـ«الدعم» الذي يمكن أن تقدّمه للدول أو الجماعات التي تخضع لها. ويفسّر هذا الأمر الإصرار الأميركي المستمر على دعم سوريا، وتصديرها بوصفها قصة نجاح سياسية في بلد كان حليفاً تاريخياً لإيران وممراً للأسلحة نحو المقاومة، قبل سقوط النظام السابق.
ويخالف النموذج الأميركي الذي تحاول واشنطن رسمه في سوريا، العديد من النماذج السابقة الفاشلة، سواء في أفغانستان أو حتى العراق، خصوصاً أن النظام السوري السابق لم يسقط بعمل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة الأميركية. ويمنح ذلك واشنطن مساحة أكبر للعمل السياسي باعتبارها «دولة داعمة»، وهو يولّد لديها أملاً، على ما يبدو، في أن يشجّع «النموذج السوري» قوىً أخرى على السير في الطريق نفسه الذي سلكه الشرع، من دون أن تكون ضامنة بالضرورة لنجاح هذا النموذج.
وبعد الإعلان عن تمرير مجلس النواب قرار إلغاء العقوبات، خرج آلاف السوريين إلى الشوارع، سواء من مؤيّدي السلطات الانتقالية أو حتى معارضيها، احتفالاً، وذلك لما تسبّبت به تلك العقوبات من جروح عميقة، راكمت بالتوازي مع ظروف الحرب، ظروفاً معيشية سيئة. وهي ظروف يأمل السوريون في أن يتم طيّها بشكل حقيقي ونهائي، بعيداً عن بازارات السياسة واستثماراتها.
بضائع إسرائيلية على الرفوف مجدداً: تعطيل إداري أم تواطؤ سياسي؟
تمجيد قبيسي
في عام 2018 وجدت السلطات اللبنانية نفسها أمام ملف حساس يتعلق بالنفوذ الإلكتروني الإسرائيلي. بعدما أثارت حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» ملف استخدام منصات إسرائيلية داخل البلاد، وجّهت قيادة الجيش ووزارة الدفاع مراسلات إلى وزارة الاقتصاد تحذّر فيها من استخدام منصات إسرائيلية داخل لبنان عبر شركتين إسرائيليتين كانتا معتمدتين بكثرة حينها، بهدف الإيعاز إلى مكتب مقاطعة إسرائيل في وزارة الاقتصاد لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
بناءً على هذه المراسلات، أحال المدير العام للاقتصاد والتجارة بالإنابة آنذاك موسى كريم الملف إلى مكتب المقاطعة لإجراء ما يلزم، لتباشر وزارة الاقتصاد والتجارة بدورها إصدار كتاب موجّه إلى جميع موزعي خدمة الإنترنت وشركات نقل المعطيات يقضي بحجب الموقعين الإلكترونيين عن الشبكة اللبنانية وإظهار رسالة للمستخدمين تفيد بأن الموقع قد حُجب بناءً لأمر المراجع الأمنية. لم يقتصر الأمر على ذلك، إذ أرسلت الوزارة كتاباً آخر إلى وزارة التربية والتعليم العالي يقضي بوجوب مقاطعة هاتين الشركتين وتعميم القرار على جميع مؤسسات التعليم العالي.
الشركة الأولى هي WIX، وهي شركة برمجيات إسرائيلية تأسست عام 2006 وتتخذ من تل أبيب مقراً رئيسياً لها، مع انتشار مكاتبها في دول عدة حول العالم. تتيح للمستخدمين إنشاء مواقع إلكترونية بسهولة من دون حاجة المستخدم إلى معرفة متعمقة بالبرمجة، وتشبه إلى حدٍّ بعيد منصة «وورد برس».
أما الشركة الثانية فهي Timy Tap، وهي منصة تعليمية رقمية إسرائيلية تأسست عام 2012 في تل أبيب، متخصصة في تطوير محتوى تفاعلي للأطفال. تتيح المنصة للمعلمين والأهالي إنشاء ألعاب تعليمية ودروس رقمية بسهولة، عبر أدوات تسمح بإضافة الصور والأصوات والأسئلة. وقد توسعت خدماتها لتشمل تحويل الكتب المدرسية إلى كتب رقمية، إضافة إلى دعم مواد متنوعة مثل الرياضيات واللغات والعلوم، ما جعلها من أبرز المنصات المستخدمة في المراحل المبكرة من التعليم.
ورغم صدور قرارات رسمية واضحة تقضي بحجب شركتي Wix و TinyTap في لبنان، فقد اكتشفت حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» العام الماضي أن الحجب لم يكن شاملاً، إذ تبيّن أن المنصتين محجوبتان في مناطق محددة، بينما بقيتا متاحتين في مناطق أخرى، بعد سلسلة اتصالات أجرتها الحملة مع عدد كبير من المواطنين. غير أنّ الموضوع لم يلقَ حينها صدى واسعاً، على خلفية العدوان الإسرائيلي الموسع على لبنان في شهر أيلول (سبتمبر).
اليوم برزت مفاجأة جديدة، إذ أكدت عضو الحملة رجاء جعفر في حديث معنا أن موقعي Wix وTinyTap عادا للظهور على شبكة الإنترنت في مختلف المناطق اللبنانية، وهو ما تأكد بعد مراسلة الحملة لأصدقائها في مناطق عدة. تبين أنّ المنصتين متاحتان ليس فقط عبر المواقع الإلكترونية، بل أيضاً على متجري «آبل ستور» و«غوغل بلاي»، ما يقطع أي شكوك حول احتمال وجود خلل تقني أو تلاعب في عملية الحجب.
وأوضحت جعفر أن الحملة بصدد رفع كتاب إلى المدير العام لوزارة الاتصالات، بعدما تواصلت مع مكتب مقاطعة إسرائيل في لبنان وتأكدت أنّ قرار الحظر لا يزال سارياً ولم يتم إلغاؤه. أمر يفتح الباب أمام تساؤلات حول كيفية عودة هذه المنصات الإسرائيلية إلى الظهور في الفضاء الرقمي اللبناني.
وعلى مستوى الأمن الاقتصادي، كانت الحملة قد كشفت سابقاً عن دخول عربات أطفال تابعة لشركة Doona الإسرائيلية المملوكة من الإسرائيلي يؤآف مزار، إضافة إلى بضائع غذائية مثل مقرمشات Elephant العائدة لشركة «ألكا» المملوكة للإسرائيلي أمير كرنتزيا، إلى السوق اللبناني، وراسلت حينها مكتب المقاطعة في الوزارة.
وبعدما طرحت «الأخبار» هذا الملف في أيلول (سبتمبر) الفائت (راجع الأخبار/ منتجات لبنانية في الأسواق: والحجار يخالف توصية مكتب المقاطعة) أرسل المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر كتاباً لمديرية حماية المستهلك يقضي بحجز هذه البضائع من الأسواق اللبنانية.
إلا أنّ الكارثة الكبرى تمثلت في عودة رصد هذه المنتجات الإسرائيلية في الأسواق اللبنانية، بعدما كانت قد سحبت سابقاً. ووفقاً لمتابعة حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان»، تبيّن أن القرار المتعلق بحجز هذه البضائع اصطدم بعقبة إدارية، إذ إن وزير الاقتصاد أحال الملف إلى رئيس الحكومة نواف سلام، لكن الأخير لم يوقع عليه حتى الآن، أي منذ ثلاثة أشهر كاملة. هذا التأخير أدّى عملياً إلى تعطيل قرار الحجز، ومنع إدراج هذه المنتجات على اللائحة السوداء، وهو ما فتح الباب أمامها للعودة مجدداً إلى رفوف المتاجر اللبنانية، في خرق واضح لسياسة المقاطعة.
وتلفت جعفر إلى أنها المرة الأولى التي يُترك فيها ملف بهذه الخطورة من دون معالجة، رغم «أنه يعد من أسهل المعارك لنا لكونه يستند إلى أدلة واضحة على ارتباط مباشر بالعدو الإسرائيلي». وتُضيف أنّ «القلق اليوم يتجاوز مسألة البضائع نفسها، إذ يثير مخاوف من تورّط رسمي أو تواطؤ ضمني من قبل الدولة في تعطيل قرارات الحجز والمقاطعة».
تمجيد قبيسي
في عام 2018 وجدت السلطات اللبنانية نفسها أمام ملف حساس يتعلق بالنفوذ الإلكتروني الإسرائيلي. بعدما أثارت حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» ملف استخدام منصات إسرائيلية داخل البلاد، وجّهت قيادة الجيش ووزارة الدفاع مراسلات إلى وزارة الاقتصاد تحذّر فيها من استخدام منصات إسرائيلية داخل لبنان عبر شركتين إسرائيليتين كانتا معتمدتين بكثرة حينها، بهدف الإيعاز إلى مكتب مقاطعة إسرائيل في وزارة الاقتصاد لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
بناءً على هذه المراسلات، أحال المدير العام للاقتصاد والتجارة بالإنابة آنذاك موسى كريم الملف إلى مكتب المقاطعة لإجراء ما يلزم، لتباشر وزارة الاقتصاد والتجارة بدورها إصدار كتاب موجّه إلى جميع موزعي خدمة الإنترنت وشركات نقل المعطيات يقضي بحجب الموقعين الإلكترونيين عن الشبكة اللبنانية وإظهار رسالة للمستخدمين تفيد بأن الموقع قد حُجب بناءً لأمر المراجع الأمنية. لم يقتصر الأمر على ذلك، إذ أرسلت الوزارة كتاباً آخر إلى وزارة التربية والتعليم العالي يقضي بوجوب مقاطعة هاتين الشركتين وتعميم القرار على جميع مؤسسات التعليم العالي.
الشركة الأولى هي WIX، وهي شركة برمجيات إسرائيلية تأسست عام 2006 وتتخذ من تل أبيب مقراً رئيسياً لها، مع انتشار مكاتبها في دول عدة حول العالم. تتيح للمستخدمين إنشاء مواقع إلكترونية بسهولة من دون حاجة المستخدم إلى معرفة متعمقة بالبرمجة، وتشبه إلى حدٍّ بعيد منصة «وورد برس».
أما الشركة الثانية فهي Timy Tap، وهي منصة تعليمية رقمية إسرائيلية تأسست عام 2012 في تل أبيب، متخصصة في تطوير محتوى تفاعلي للأطفال. تتيح المنصة للمعلمين والأهالي إنشاء ألعاب تعليمية ودروس رقمية بسهولة، عبر أدوات تسمح بإضافة الصور والأصوات والأسئلة. وقد توسعت خدماتها لتشمل تحويل الكتب المدرسية إلى كتب رقمية، إضافة إلى دعم مواد متنوعة مثل الرياضيات واللغات والعلوم، ما جعلها من أبرز المنصات المستخدمة في المراحل المبكرة من التعليم.
ورغم صدور قرارات رسمية واضحة تقضي بحجب شركتي Wix و TinyTap في لبنان، فقد اكتشفت حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» العام الماضي أن الحجب لم يكن شاملاً، إذ تبيّن أن المنصتين محجوبتان في مناطق محددة، بينما بقيتا متاحتين في مناطق أخرى، بعد سلسلة اتصالات أجرتها الحملة مع عدد كبير من المواطنين. غير أنّ الموضوع لم يلقَ حينها صدى واسعاً، على خلفية العدوان الإسرائيلي الموسع على لبنان في شهر أيلول (سبتمبر).
اليوم برزت مفاجأة جديدة، إذ أكدت عضو الحملة رجاء جعفر في حديث معنا أن موقعي Wix وTinyTap عادا للظهور على شبكة الإنترنت في مختلف المناطق اللبنانية، وهو ما تأكد بعد مراسلة الحملة لأصدقائها في مناطق عدة. تبين أنّ المنصتين متاحتان ليس فقط عبر المواقع الإلكترونية، بل أيضاً على متجري «آبل ستور» و«غوغل بلاي»، ما يقطع أي شكوك حول احتمال وجود خلل تقني أو تلاعب في عملية الحجب.
وأوضحت جعفر أن الحملة بصدد رفع كتاب إلى المدير العام لوزارة الاتصالات، بعدما تواصلت مع مكتب مقاطعة إسرائيل في لبنان وتأكدت أنّ قرار الحظر لا يزال سارياً ولم يتم إلغاؤه. أمر يفتح الباب أمام تساؤلات حول كيفية عودة هذه المنصات الإسرائيلية إلى الظهور في الفضاء الرقمي اللبناني.
وعلى مستوى الأمن الاقتصادي، كانت الحملة قد كشفت سابقاً عن دخول عربات أطفال تابعة لشركة Doona الإسرائيلية المملوكة من الإسرائيلي يؤآف مزار، إضافة إلى بضائع غذائية مثل مقرمشات Elephant العائدة لشركة «ألكا» المملوكة للإسرائيلي أمير كرنتزيا، إلى السوق اللبناني، وراسلت حينها مكتب المقاطعة في الوزارة.
وبعدما طرحت «الأخبار» هذا الملف في أيلول (سبتمبر) الفائت (راجع الأخبار/ منتجات لبنانية في الأسواق: والحجار يخالف توصية مكتب المقاطعة) أرسل المدير العام لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر كتاباً لمديرية حماية المستهلك يقضي بحجز هذه البضائع من الأسواق اللبنانية.
إلا أنّ الكارثة الكبرى تمثلت في عودة رصد هذه المنتجات الإسرائيلية في الأسواق اللبنانية، بعدما كانت قد سحبت سابقاً. ووفقاً لمتابعة حملة «مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان»، تبيّن أن القرار المتعلق بحجز هذه البضائع اصطدم بعقبة إدارية، إذ إن وزير الاقتصاد أحال الملف إلى رئيس الحكومة نواف سلام، لكن الأخير لم يوقع عليه حتى الآن، أي منذ ثلاثة أشهر كاملة. هذا التأخير أدّى عملياً إلى تعطيل قرار الحجز، ومنع إدراج هذه المنتجات على اللائحة السوداء، وهو ما فتح الباب أمامها للعودة مجدداً إلى رفوف المتاجر اللبنانية، في خرق واضح لسياسة المقاطعة.
وتلفت جعفر إلى أنها المرة الأولى التي يُترك فيها ملف بهذه الخطورة من دون معالجة، رغم «أنه يعد من أسهل المعارك لنا لكونه يستند إلى أدلة واضحة على ارتباط مباشر بالعدو الإسرائيلي». وتُضيف أنّ «القلق اليوم يتجاوز مسألة البضائع نفسها، إذ يثير مخاوف من تورّط رسمي أو تواطؤ ضمني من قبل الدولة في تعطيل قرارات الحجز والمقاطعة».
الفصائل الفلسطينية تهنئ الجبهة الشعبية بذكرى انطلاقتها: ركن ثابت في النضال الفلسطيني
قدّمت فصائل العمل الوطني الفلسطيني التهنئة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمناسبة الذكرى الـ58 لانطلاقتها والتي تصادف اليوم الجمعة.
ويأتي ذلك انسجاماً بالعلاقة الوطيدة التي تجمع الجبهة الشعبية بمختلف الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها وتوجهاتها، وما يعكس مكانتها في العمل السياسي والمقاوم منذ نشأتها، كما يؤكد استمرار التنسيق بين الفصائل الفلسطينية رغم العدوان على شعبنا الفلسطيني وحرب الإبادة التي شنها العدو.
وتقدمت حركة حماس بالتهنئة من الجبهة، مضيفةً أنها شكّلت منذ عام 1967 ركنًا ثابتًا من أركان النضال الفلسطيني، وقدّمت الشهداء والقادة والأسرى الذين تركوا بصمات مشرّفة في مقاومة الاحتلال.
وثمّنت الحركة الدور النضالي للجبهة الشعبية، ومشاركتها الفاعلة في معركة الصمود والدفاع عن شعبنا، مركدةً حرصها على تعزيز العمل الوطني المشترك، وتوحيد الجهود في هذه المرحلة الحساسة التي تتطلب رصّ الصفوف والارتفاع إلى مستوى تضحيات شعبنا البطل.
من جانبها قالت حركة الجهاد إن انطلاقة الجبهة كانت علامة فارقة في تاريخ نضال شعبنا الفلسطيني ضد الاحتلال وداعميه، وما زالت في مواقع النضال والصمود والثبات والكفاح دفاعاً عن شعبنا الفلسطيني وقضيته المحقة.
وأكدت في هذا السياق على عمق الروابط التي تجمعها بالجبهة إلى جانب قوى المقاومة كافة على طريق الجهاد والمقاومة، حتى تحرير أرضنا وأسرانا وخلاص شعبنا من رجس الاحتلال المجرم، مشيدةً بمواقف الجبهة الشعبية، وقادتها على امتداد تاريخ النضال، كما استذكرت المواقف الشجاعة لمؤسسها المناضل الحكيم جورج حبش والشهيد القائد أبو علي مصطفى، وروح الصمود والتضحية للأمين العام أحمد سعدات ورفاقه داخل السجون وخارجها، ومناضلي وشهداء وأسرى الجبهة في كل المواقع والساحات.
بدورها تقدمت الجبهة الديمقراطية: من الرفاق الأعزاء بالجبهة قيادة كوادر واعضاء ومناصرين وعلي رأسهم الامين العام الاسير احمد سعدات ونائبه الرفيق جميل مزهر بالتهنئة الحاره في ذكري الانطلاقه المجيد,
وقالت الديمقراطية إن هذه الذكرى في ظروف بالغة التعقيد يعاني فيها شعبنا من العدوان المتكرر واستمرار حرب الإبادة الجماعية، الأمر الذي يتطلب سرعة انجاز الوحده الوطنية.
في ذات السياق تقدمت المبادرة الوطنية الفلسطينية بالتهاني للرفاق المناضلين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و إلى أمينها العام الرفيق المناضل الأسير الصامد أحمد سعدات و نائب الأمين العام الرفيق المناضل جميل مزهر و إلى أعضاء مكتبها السياسي و لجانها المركزية و كافة قياداتها و كوادرها و اعضائها و مناصريها وهيئاتها التنظيمية و الجماهيرية بمناسبة الذكرى الثامنة و الخمسين للانطلاقة المجيدة.
وأعربت عن اعتزازها بالدور النضالي والكفاحي على صعيد النضال الوطني و الاجتماعي للجبهة وما خاضته من مقاومة باسلة شجاعة و مواقفها الوطنية و الوحدوية، مستذكرةً القائمة الطويلة من شهيدات وشهداء الجبهة وفي مقدمتهم الأمين العام الشهيد المناضل الرفيق أبو علي مصطفى، وأسيراتها وأسراها البواسل الذين ضحوا بأغلى ما يملكون دفاعا عن فلسطين و قضيتها الوطنية.
وتقدم حزب الشعب من الرفاق قيادة وكوادر ومناصري الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينين باحر التهاني بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لانطلاقتها.
وقال: سنوات طوال قدمت خلالها الجبهة إلى جانب شعبنا تضحيات جسيمة من اجل تحقيق حقوق شعبنا في العودة والحرية والاستقلال.
الجبهة الشعبية - القيادة العامة، بدورها تقدمت بالتهنئة من الجبهة الشعبية بذكرى انطلاقتها، وذلك انطلاقاً من مكانتها ودورها الريادي الفعال في مسيرة ثورتنا الفلسطينية المعاصرة، مشيرةً إلى أن الجبهة أسهمت في تجذير خط المقاومة ومواجهة سياسات المساومة والاستسلام واستطاعت ومنذ انطلاقتها أن ترسي منهجاً فدائياً مقاوماً أذل العدو الصهيوني وأكد أن المقاومة وحدها هي التي تحمي قضيتنا الفلسطينية وحقوق شعبنا التاريخية.
وتوجهت بتحية الفخر والاعتزاز للقائد المبدئي الشامخ في أسره الرفيق أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
من جانبه توجه تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح بالتحية إلى الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قيادةً وكوادر وأعضاء، في ذكرى انطلاقتها المجيدة، تقديرًا لدورهم الثابت في مسيرة شعبنا ونضاله العادل من أجل الحرية والعودة والاستقلال.
وأضاف في بيان له: شكّلت انطلاقة الجبهة محطةً مضيئة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، حملت فيها راية النضال والفكر والوعي، وقدمت نموذجًا صلبًا في مواجهة الاحتلال، وفي الدفاع عن حقوق شعبنا وكرامته.
وأكد أن حضور الجبهة وإسهامها الوطني ركيزةً أساسيةً في مسار النضال المشترك، موجهاً التحية لشهداء الجبهة وشهداء شعبنا كافة، ونوجّه التحية لأسرانا الأبطال الذين يجسدون أعلى معاني الثبات والصمود.
قدّمت فصائل العمل الوطني الفلسطيني التهنئة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمناسبة الذكرى الـ58 لانطلاقتها والتي تصادف اليوم الجمعة.
ويأتي ذلك انسجاماً بالعلاقة الوطيدة التي تجمع الجبهة الشعبية بمختلف الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها وتوجهاتها، وما يعكس مكانتها في العمل السياسي والمقاوم منذ نشأتها، كما يؤكد استمرار التنسيق بين الفصائل الفلسطينية رغم العدوان على شعبنا الفلسطيني وحرب الإبادة التي شنها العدو.
وتقدمت حركة حماس بالتهنئة من الجبهة، مضيفةً أنها شكّلت منذ عام 1967 ركنًا ثابتًا من أركان النضال الفلسطيني، وقدّمت الشهداء والقادة والأسرى الذين تركوا بصمات مشرّفة في مقاومة الاحتلال.
وثمّنت الحركة الدور النضالي للجبهة الشعبية، ومشاركتها الفاعلة في معركة الصمود والدفاع عن شعبنا، مركدةً حرصها على تعزيز العمل الوطني المشترك، وتوحيد الجهود في هذه المرحلة الحساسة التي تتطلب رصّ الصفوف والارتفاع إلى مستوى تضحيات شعبنا البطل.
من جانبها قالت حركة الجهاد إن انطلاقة الجبهة كانت علامة فارقة في تاريخ نضال شعبنا الفلسطيني ضد الاحتلال وداعميه، وما زالت في مواقع النضال والصمود والثبات والكفاح دفاعاً عن شعبنا الفلسطيني وقضيته المحقة.
وأكدت في هذا السياق على عمق الروابط التي تجمعها بالجبهة إلى جانب قوى المقاومة كافة على طريق الجهاد والمقاومة، حتى تحرير أرضنا وأسرانا وخلاص شعبنا من رجس الاحتلال المجرم، مشيدةً بمواقف الجبهة الشعبية، وقادتها على امتداد تاريخ النضال، كما استذكرت المواقف الشجاعة لمؤسسها المناضل الحكيم جورج حبش والشهيد القائد أبو علي مصطفى، وروح الصمود والتضحية للأمين العام أحمد سعدات ورفاقه داخل السجون وخارجها، ومناضلي وشهداء وأسرى الجبهة في كل المواقع والساحات.
بدورها تقدمت الجبهة الديمقراطية: من الرفاق الأعزاء بالجبهة قيادة كوادر واعضاء ومناصرين وعلي رأسهم الامين العام الاسير احمد سعدات ونائبه الرفيق جميل مزهر بالتهنئة الحاره في ذكري الانطلاقه المجيد,
وقالت الديمقراطية إن هذه الذكرى في ظروف بالغة التعقيد يعاني فيها شعبنا من العدوان المتكرر واستمرار حرب الإبادة الجماعية، الأمر الذي يتطلب سرعة انجاز الوحده الوطنية.
في ذات السياق تقدمت المبادرة الوطنية الفلسطينية بالتهاني للرفاق المناضلين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و إلى أمينها العام الرفيق المناضل الأسير الصامد أحمد سعدات و نائب الأمين العام الرفيق المناضل جميل مزهر و إلى أعضاء مكتبها السياسي و لجانها المركزية و كافة قياداتها و كوادرها و اعضائها و مناصريها وهيئاتها التنظيمية و الجماهيرية بمناسبة الذكرى الثامنة و الخمسين للانطلاقة المجيدة.
وأعربت عن اعتزازها بالدور النضالي والكفاحي على صعيد النضال الوطني و الاجتماعي للجبهة وما خاضته من مقاومة باسلة شجاعة و مواقفها الوطنية و الوحدوية، مستذكرةً القائمة الطويلة من شهيدات وشهداء الجبهة وفي مقدمتهم الأمين العام الشهيد المناضل الرفيق أبو علي مصطفى، وأسيراتها وأسراها البواسل الذين ضحوا بأغلى ما يملكون دفاعا عن فلسطين و قضيتها الوطنية.
وتقدم حزب الشعب من الرفاق قيادة وكوادر ومناصري الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينين باحر التهاني بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لانطلاقتها.
وقال: سنوات طوال قدمت خلالها الجبهة إلى جانب شعبنا تضحيات جسيمة من اجل تحقيق حقوق شعبنا في العودة والحرية والاستقلال.
الجبهة الشعبية - القيادة العامة، بدورها تقدمت بالتهنئة من الجبهة الشعبية بذكرى انطلاقتها، وذلك انطلاقاً من مكانتها ودورها الريادي الفعال في مسيرة ثورتنا الفلسطينية المعاصرة، مشيرةً إلى أن الجبهة أسهمت في تجذير خط المقاومة ومواجهة سياسات المساومة والاستسلام واستطاعت ومنذ انطلاقتها أن ترسي منهجاً فدائياً مقاوماً أذل العدو الصهيوني وأكد أن المقاومة وحدها هي التي تحمي قضيتنا الفلسطينية وحقوق شعبنا التاريخية.
وتوجهت بتحية الفخر والاعتزاز للقائد المبدئي الشامخ في أسره الرفيق أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
من جانبه توجه تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح بالتحية إلى الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قيادةً وكوادر وأعضاء، في ذكرى انطلاقتها المجيدة، تقديرًا لدورهم الثابت في مسيرة شعبنا ونضاله العادل من أجل الحرية والعودة والاستقلال.
وأضاف في بيان له: شكّلت انطلاقة الجبهة محطةً مضيئة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، حملت فيها راية النضال والفكر والوعي، وقدمت نموذجًا صلبًا في مواجهة الاحتلال، وفي الدفاع عن حقوق شعبنا وكرامته.
وأكد أن حضور الجبهة وإسهامها الوطني ركيزةً أساسيةً في مسار النضال المشترك، موجهاً التحية لشهداء الجبهة وشهداء شعبنا كافة، ونوجّه التحية لأسرانا الأبطال الذين يجسدون أعلى معاني الثبات والصمود.
حروب متواصلة ليتهرب نتنياهو من محاكمته وتنامي العنصرية في ظل حكومة دينية – فاشية
بلال ضاهر
كانت إسرائيل تحاول دائمًا أن تسوّق نفسها بأنها دولة ديمقراطية – ليبرالية – متنورة، لكن هذا الوصف يجافي الحقيقة. فإسرائيل، منذ تأسيسها، لم تكن بهذه الصفات. لقد فرضت حكمًا عسكريًا على المجتمع العربي لمدة عشرين عامًا على الأقل. وسياساتها العنصرية ضد مواطنيها العرب مستمرة حتى اليوم. والادعاء أن إسرائيل دولة ديمقراطية – ليبرالية – متنورة بالنسبة لليهود فقط، هو ادعاء كاذب أيضًا.
فإسرائيل منذ تأسيسها تعاملت وتتعامل حتى اليوم بشكل عنصري مع مواطنيها اليهود الذين هاجروا إليها بعد قيامها، في نهاية أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من الدول العربية والذين يُعرفون بتسمية اليهود الشرقيين. وتعاملت وتتعامل حتى اليوم بعنصرية مع اليهود الإثيوبيين الذين استُجلبوا في الثمانينيات، وكذلك مع المهاجرين الذين استُجلبوا، في بداية التسعينيات، من دول الاتحاد السوفييتي بعد انهياره.
هذه الأمور ليست سرية وإنما معروفة منذ فترة طويلة. فالمؤسسة الحاخامية الإسرائيلية تشكك حتى اليوم في يهودية المهاجرين الإثيوبيين، وتشكك بشكل خاص في هوية المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق. لكن الجديد في هذا الموضوع أن إسرائيل لم تعد تحاول إخفاء العنصرية ضد هذه الفئات، في ظل ولاية الحكومة الفاشية – الدينية الحالية التي اضطر بنيامين نتنياهو إلى تشكيلها، قبل ثلاث سنوات، بسبب رفض الأحزاب "العلمانية" المشاركة في حكومة برئاسته، إثر محاكمته بتهم فساد التصقت به.
مطلع الشهر الماضي، قدّمت وزارة الأديان والمحاكم الدينية مشروع قانون حكومي يمنح صلاحيات واسعة للمحاكم الدينية من أجل فحص ما إذا كانت يهودية شخص حقيقية أم لا، وأن يكون قرار المحكمة الدينية ملزمًا لجميع السلطات في الدولة. وسيجعل هذا القانون بعد سنّه أي شخص في إسرائيل، وخاصة بين المهاجرين الروس، معرضًا للتحقيق حول صحة يهوديته. وفي حال تقرر أن شخصًا ليس يهوديًا، سيُطالب أقرباؤه أيضًا بأن يختاروا بين ما إذا كانوا يريدون الخضوع لإجراءات إثبات يهوديتهم أو أن يُسجلوا كممنوعين من الزواج في المحاكم الدينية اليهودية.
في الأسابيع الأخيرة، وبعد الإعلان عن وقف إطلاق نار مزعوم في حرب الإبادة على غزة، صعّدت حكومة نتنياهو خطوات "الانقلاب القضائي" لإضعاف جهاز القضاء، وتصاعد أكثر في أعقاب تقديم نتنياهو طلب العفو عنه إلى الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، من دون أن يعترف بالتهم المنسوبة إليه، وإعلانه أنه لن يتنحى عن الحياة السياسية وأنه باق في منصبه، وهو ما يراه كبار الخبراء القانونيين بأنه ليس طلب عفو وإنما مناورة من جانب نتنياهو للتخلص من محاكمته.
أحد مشاريع القوانين الجديدة التي تم تقديمها للكنيست، هذا الأسبوع، يسمح لوزير القضاء، ياريف ليفين، الذي يقود "الانقلاب القضائي"، بأن يقرر في هوية مدعٍ، لا يُشترط أن يكون من النيابة العامة، لمرافقة تحقيق تجريه الشرطة ضد المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا، بشبهة ضلوعها في تسريب المدعية العامة العسكرية السابقة، يفعات تومر يروشالمي، شريطًا مصورًا يوثق تعذيب معتقل فلسطيني على أيدي جنود في منشأة الاعتقال في معسكر "سديه تيمان"، رغم أن الشرطة أعلنت أن المستشارة ليست مشتبهة في هذه القضية.
وانزلقت الحكومة الإسرائيلية إلى حضيض فاشي جديد، يتعلق بمشروع قانون إعدام أسرى فلسطينيين، الذي بادر إليه حزب وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، رغم أن القانون الإسرائيلي الحالي يشمل عقوبة الإعدام التي لم تطبق رسميًا سوى مرة واحدة، ضد النازي أدولف آيخمان، ولكن تم تطبيقها فعليًا، بدون اعتراف إسرائيل، بحق أسرى فلسطينيين كثيرين، بتعذيبهم أو تجويعهم أو بالامتناع عن معالجتهم. ووصل بن غفير وأعضاء كنيست من حزبه إلى الكنيست، هذا الأسبوع، واضعين دبوس مشنقة على ملابسهم.
وبرر نتنياهو سن قانون الإعدام، خلال اجتماع للكابينيت السياسي – الأمني، قبل أسبوعين، واعتبر صفقات تبادل الأسرى مع حركة حماس، "ستشجع على تنفيذ عمليات خطف في المستقبل". ويدعي هذا القانون أن عقوبة الإعدام ستردع تنفيذ عمليات مسلحة وأسر إسرائيليين، لكن خبراء قانون وأطباء إسرائيليين يؤكدون أن عقوبة الإعدام وتنفيذها، سيصعد مثل هذه العمليات ضد إسرائيليين، وسيرفع مستوى العنف وجرائم القتل في إسرائيل نفسها، بالاستناد إلى تجارب دول طبقت هذه العقوبة، ويحذرون من تزايد الانتقادات الدولية لإسرائيل.
في ظل هذا المستوى من العنصرية والفاشية للحكومة الإسرائيلية ومحاولة رئيسها التهرب من محاكمته، ليس مستغربًا سعي نتنياهو إلى استمرار الحرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وربما توسيعها إلى دول أخرى.
إسرائيل تسعى لحرب أهلية في لبنان
ذريعة إسرائيل لاستمرار حروبها هي نزع سلاح حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة وحزب الله في لبنان. ولا شك في أن إسرائيل تعلم أن هذه الفصائل ترفض بالمطلق إلقاء سلاحها، لأنها تعتبر سلاحها شرط وجودها. لكن يبدو أن إسرائيل تستخدم هذا المطلب من أجل تحقيق هدف آخر لا تذكره، وهو الدفع نحو صراعات داخلية بين الفلسطينيين وفي لبنان، وتأمل بحروب أهلية.
في ظل النزعات العدوانية الإسرائيلية، تدعي الحكومة الإسرائيلية أنها "محبطة" من أن الحكومة اللبنانية لا تفعل ما فيه الكفاية من أجل نزع سلاح حزب الله، وتهدد الحكومة اللبنانية بأنه "لن ننتظر إلى الأبد"، لكن إسرائيل تريد الحصول على موافقة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على استئناف الحرب ضد لبنان، التي سيبحثها نتنياهو خلال لقائه مع ترامب في نهاية الشهر الجاري، حسبما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أمس، الخميس.
وتطالب إسرائيل سورية أن يكون جنوبها، أي المنطقة التي تحتل إسرائيل قسما كبيرا منها، منزوع السلاح. ورغم أن الحكومة الإسرائيلية عنصرية بامتياز وبالكاد تهتم بمواطنيها اليهود، لكنها تطالب بضمانات للاحتفاظ "بممر إنساني" لتقديم مساعدات للدروز في السويداء. وترفض سورية هذه المزاعم الإسرائيلية وتؤكد أنها تمس بسيادتها.
إسرائيل ترفض بشكل قاطع الانسحاب من أعلى قمة لجبل الشيخ في سورية، لكنها تتخوف من أن يفرض ترامب عليها انسحابًا من كافة الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط نظام بشار الأسد، قبل سنة.
وتصف الحكومة الإسرائيلية المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان والسفير في أنقرة، توم باراك، بأنه "جهة معادية"، حسب الصحيفة، وأنه يدفع مصالح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، "ولا يفوت فرصة إلا ويسمم أذن ترامب ضد إسرائيل"، وأنه يدفع ترامب إلى الموافقة على تزويد تركيا بطائرات إف-35 الذي تعارضه إسرائيل بشدة. وسيحاول نتنياهو خلال لقائه مع ترامب منع هذه الصفقة.
تفاقم أزمة غزة جراء المنخفض الجوي
لم توقف إسرائيل حربها على غزة، منذ بدء سريان وقف إطلاق النار المزعوم قبل شهرين، وتشير المعطيات الرسمية إلى أنه استشهد خلال الشهرين الماضيين 383 فلسطينيًا وأصيب أكثر من ألف آخرين. وتم انتشال جثامين 627 شهيدًا من تحت الأنقاض.
وخلافًا لمزاعم إسرائيلية وأميركية، فإن إسرائيل تواصل سياسة تجويع الغزيين. وأفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أمس، بأن إسرائيل سمحت بدخول 14,534 شاحنة مساعدات إلى القطاع، بدلًا من 37,200 شاحنة كان يُفترض دخولها في الشهرين الأخيرين، وكانت محملة بالسلع منخفضة القيمة الغذائية، ومنعت إسرائيل دخول عشرات الأصناف الحيوية الضرورية لسكان القطاع.
العدوان الإسرائيلي متواصل فيما يضرب المنخفض الجوي الحالي قطاع غزة ويشكل خطرًا كبيرًا على سكانه. وأعلن الدفاع المدني في غزة، أمس، أنه تلقى أكثر من 2500 نداء استغاثة نتيجة المنخفض الجوي، وتسبّب بأضرار كبيرة بخيام النازحين، وأكد أن "القطاع يواجه تحديات قاهرة، حيث تضطر العائلات للنزوح من منطقة إلى أخرى بحثًا عن مأوى آمن"، وحذر الدفاع من أن المنخفض الجوي قد يؤدي إلى جرف المباني الآيلة للسقوط، ما يشكل خطرًا حقيقيًا على حياة السكان.
وحذرت وكالة الأونروا من أن هطول الأمطار في قطاع غزة يضيف صعوبات جديدة ويزيد خطورة الأوضاع المعيشية المتردية أصلًا، وأشارت إلى أن البرد الشديد والاكتظاظ وانعدام النظافة، يزيد من مخاطر انتشار الأمراض والعدوى بين السكان، خاصة في ظل غياب المأوى الملائم والخدمات الأساسية.
الضفة الغربية: بؤر استيطانية بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي
بدأت إسرائيل، هذا الأسبوع، ببناء جدار على طول الحدود الأردنية، التي يفصل قسم كبير منها بين الأردن والضفة الغربية. وقال وزير الأمن، يسرائيل كاتس، إن بناء الجدار سيعزز الاستيطان في الضفة "من أجل ترسيخ سيطرتنا في المنطقة وتعزيز الاستيطان كعنصر إستراتيجي في أمننا القومي".
يأتي بناء هذا الجدار وتوسيع الاستيطان في ظل المخطط الإسرائيلي لضم الضفة. وقال ضابط برتبة عقيد في الجيش الإسرائيلي لقناة "كان"، هذا الأسبوع، إن البؤر الاستيطانية العشوائية على شكل مزارع، تُقام بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي منذ تولي الجنرال أفي بلوط منصب قائد القيادة الوسطى للجيش، وأنه منذ تموز/يوليو عام 2024، "نحن لا نعلم فقط أن المستوطنين سيقيمون بؤرًا استيطانية وإنما نشارك في إقامتها، وقبل ذلك كانت تُقام البؤر الاستيطانية بدون علم مسبق للجيش، أي أنها كانت تُقام في الليل ونضطر إلى الموافقة عليها كحقيقة ناجزة".
وأضاف الضابط أن بلوط أصدر أمرًا عسكريًا يقضي "بإقامة بؤرة استيطانية بالتنسيق" مع الجيش، وتخطيط لحجم قوات الجيش لحراسة البؤرة الاستيطانية وعدد الكرافانات التي ستُدخل إليها. وأشار إلى أنه يوجد في كل بؤرة استيطانية أربعة إلى خمسة جنود، وأن هناك أكثر من 100 بؤرة استيطانية كهذه، "أي أكثر من 500 جندي، وهؤلاء قوة بحجم كتيبة كاملة مهمتها حراسة البؤر الاستيطانية فقط".
وأشار الضابط إلى أن "هذه حلقة لا أحد ينجح في السيطرة عليها. تُقام بؤرة استيطانية، وتحدث احتكاكًا (واجهات مع فلسطينيين)، وهذا الاحتكاك يؤدي إلى احتكاك آخر، وهذا يؤدي إلى تنفيذ عملية مسلحة، التي تؤدي إلى توسيع البؤرة الاستيطانية والرغبة في تحويلها إلى مستوطنة، وهذا حدث لا ينتهي. والجيش ينشغل متعمدًا في حدث ليس قانونيًا وليس ضمن مهماته".
ونقلت قناة "كان" عن تحذير لضباط إسرائيليين كبار، في آذار/مارس الماضي، أنه "منذ بداية عام 2024 وحتى اليوم تم توثيق أكثر من 200 خرق لأعمال بناء في المستوطنات، بينها 36 مزرعة استيطانية وعدة عشرات بؤر استيطانية. والأمر المثير للقلق أكثر هو أن معظم المزارع الجديدة أُقيمت بعلم ومصادقة جهات مختلفة في الجيش".
ونقلت القناة عن وزير المالية الإسرائيلي والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، قوله إن "هذه المزارع الاستيطانية ليست قانونية، ونحن نعمل كي تكون قانونية"، ثم تراجع عن أقواله قائلًا إنه "لست مقتنعًا أنها ليست قانونية".
بلال ضاهر
كانت إسرائيل تحاول دائمًا أن تسوّق نفسها بأنها دولة ديمقراطية – ليبرالية – متنورة، لكن هذا الوصف يجافي الحقيقة. فإسرائيل، منذ تأسيسها، لم تكن بهذه الصفات. لقد فرضت حكمًا عسكريًا على المجتمع العربي لمدة عشرين عامًا على الأقل. وسياساتها العنصرية ضد مواطنيها العرب مستمرة حتى اليوم. والادعاء أن إسرائيل دولة ديمقراطية – ليبرالية – متنورة بالنسبة لليهود فقط، هو ادعاء كاذب أيضًا.
فإسرائيل منذ تأسيسها تعاملت وتتعامل حتى اليوم بشكل عنصري مع مواطنيها اليهود الذين هاجروا إليها بعد قيامها، في نهاية أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من الدول العربية والذين يُعرفون بتسمية اليهود الشرقيين. وتعاملت وتتعامل حتى اليوم بعنصرية مع اليهود الإثيوبيين الذين استُجلبوا في الثمانينيات، وكذلك مع المهاجرين الذين استُجلبوا، في بداية التسعينيات، من دول الاتحاد السوفييتي بعد انهياره.
هذه الأمور ليست سرية وإنما معروفة منذ فترة طويلة. فالمؤسسة الحاخامية الإسرائيلية تشكك حتى اليوم في يهودية المهاجرين الإثيوبيين، وتشكك بشكل خاص في هوية المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق. لكن الجديد في هذا الموضوع أن إسرائيل لم تعد تحاول إخفاء العنصرية ضد هذه الفئات، في ظل ولاية الحكومة الفاشية – الدينية الحالية التي اضطر بنيامين نتنياهو إلى تشكيلها، قبل ثلاث سنوات، بسبب رفض الأحزاب "العلمانية" المشاركة في حكومة برئاسته، إثر محاكمته بتهم فساد التصقت به.
مطلع الشهر الماضي، قدّمت وزارة الأديان والمحاكم الدينية مشروع قانون حكومي يمنح صلاحيات واسعة للمحاكم الدينية من أجل فحص ما إذا كانت يهودية شخص حقيقية أم لا، وأن يكون قرار المحكمة الدينية ملزمًا لجميع السلطات في الدولة. وسيجعل هذا القانون بعد سنّه أي شخص في إسرائيل، وخاصة بين المهاجرين الروس، معرضًا للتحقيق حول صحة يهوديته. وفي حال تقرر أن شخصًا ليس يهوديًا، سيُطالب أقرباؤه أيضًا بأن يختاروا بين ما إذا كانوا يريدون الخضوع لإجراءات إثبات يهوديتهم أو أن يُسجلوا كممنوعين من الزواج في المحاكم الدينية اليهودية.
في الأسابيع الأخيرة، وبعد الإعلان عن وقف إطلاق نار مزعوم في حرب الإبادة على غزة، صعّدت حكومة نتنياهو خطوات "الانقلاب القضائي" لإضعاف جهاز القضاء، وتصاعد أكثر في أعقاب تقديم نتنياهو طلب العفو عنه إلى الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، من دون أن يعترف بالتهم المنسوبة إليه، وإعلانه أنه لن يتنحى عن الحياة السياسية وأنه باق في منصبه، وهو ما يراه كبار الخبراء القانونيين بأنه ليس طلب عفو وإنما مناورة من جانب نتنياهو للتخلص من محاكمته.
أحد مشاريع القوانين الجديدة التي تم تقديمها للكنيست، هذا الأسبوع، يسمح لوزير القضاء، ياريف ليفين، الذي يقود "الانقلاب القضائي"، بأن يقرر في هوية مدعٍ، لا يُشترط أن يكون من النيابة العامة، لمرافقة تحقيق تجريه الشرطة ضد المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا، بشبهة ضلوعها في تسريب المدعية العامة العسكرية السابقة، يفعات تومر يروشالمي، شريطًا مصورًا يوثق تعذيب معتقل فلسطيني على أيدي جنود في منشأة الاعتقال في معسكر "سديه تيمان"، رغم أن الشرطة أعلنت أن المستشارة ليست مشتبهة في هذه القضية.
وانزلقت الحكومة الإسرائيلية إلى حضيض فاشي جديد، يتعلق بمشروع قانون إعدام أسرى فلسطينيين، الذي بادر إليه حزب وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، رغم أن القانون الإسرائيلي الحالي يشمل عقوبة الإعدام التي لم تطبق رسميًا سوى مرة واحدة، ضد النازي أدولف آيخمان، ولكن تم تطبيقها فعليًا، بدون اعتراف إسرائيل، بحق أسرى فلسطينيين كثيرين، بتعذيبهم أو تجويعهم أو بالامتناع عن معالجتهم. ووصل بن غفير وأعضاء كنيست من حزبه إلى الكنيست، هذا الأسبوع، واضعين دبوس مشنقة على ملابسهم.
وبرر نتنياهو سن قانون الإعدام، خلال اجتماع للكابينيت السياسي – الأمني، قبل أسبوعين، واعتبر صفقات تبادل الأسرى مع حركة حماس، "ستشجع على تنفيذ عمليات خطف في المستقبل". ويدعي هذا القانون أن عقوبة الإعدام ستردع تنفيذ عمليات مسلحة وأسر إسرائيليين، لكن خبراء قانون وأطباء إسرائيليين يؤكدون أن عقوبة الإعدام وتنفيذها، سيصعد مثل هذه العمليات ضد إسرائيليين، وسيرفع مستوى العنف وجرائم القتل في إسرائيل نفسها، بالاستناد إلى تجارب دول طبقت هذه العقوبة، ويحذرون من تزايد الانتقادات الدولية لإسرائيل.
في ظل هذا المستوى من العنصرية والفاشية للحكومة الإسرائيلية ومحاولة رئيسها التهرب من محاكمته، ليس مستغربًا سعي نتنياهو إلى استمرار الحرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وربما توسيعها إلى دول أخرى.
إسرائيل تسعى لحرب أهلية في لبنان
ذريعة إسرائيل لاستمرار حروبها هي نزع سلاح حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة وحزب الله في لبنان. ولا شك في أن إسرائيل تعلم أن هذه الفصائل ترفض بالمطلق إلقاء سلاحها، لأنها تعتبر سلاحها شرط وجودها. لكن يبدو أن إسرائيل تستخدم هذا المطلب من أجل تحقيق هدف آخر لا تذكره، وهو الدفع نحو صراعات داخلية بين الفلسطينيين وفي لبنان، وتأمل بحروب أهلية.
في ظل النزعات العدوانية الإسرائيلية، تدعي الحكومة الإسرائيلية أنها "محبطة" من أن الحكومة اللبنانية لا تفعل ما فيه الكفاية من أجل نزع سلاح حزب الله، وتهدد الحكومة اللبنانية بأنه "لن ننتظر إلى الأبد"، لكن إسرائيل تريد الحصول على موافقة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على استئناف الحرب ضد لبنان، التي سيبحثها نتنياهو خلال لقائه مع ترامب في نهاية الشهر الجاري، حسبما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أمس، الخميس.
وتطالب إسرائيل سورية أن يكون جنوبها، أي المنطقة التي تحتل إسرائيل قسما كبيرا منها، منزوع السلاح. ورغم أن الحكومة الإسرائيلية عنصرية بامتياز وبالكاد تهتم بمواطنيها اليهود، لكنها تطالب بضمانات للاحتفاظ "بممر إنساني" لتقديم مساعدات للدروز في السويداء. وترفض سورية هذه المزاعم الإسرائيلية وتؤكد أنها تمس بسيادتها.
إسرائيل ترفض بشكل قاطع الانسحاب من أعلى قمة لجبل الشيخ في سورية، لكنها تتخوف من أن يفرض ترامب عليها انسحابًا من كافة الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط نظام بشار الأسد، قبل سنة.
وتصف الحكومة الإسرائيلية المبعوث الأميركي إلى سورية ولبنان والسفير في أنقرة، توم باراك، بأنه "جهة معادية"، حسب الصحيفة، وأنه يدفع مصالح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، "ولا يفوت فرصة إلا ويسمم أذن ترامب ضد إسرائيل"، وأنه يدفع ترامب إلى الموافقة على تزويد تركيا بطائرات إف-35 الذي تعارضه إسرائيل بشدة. وسيحاول نتنياهو خلال لقائه مع ترامب منع هذه الصفقة.
تفاقم أزمة غزة جراء المنخفض الجوي
لم توقف إسرائيل حربها على غزة، منذ بدء سريان وقف إطلاق النار المزعوم قبل شهرين، وتشير المعطيات الرسمية إلى أنه استشهد خلال الشهرين الماضيين 383 فلسطينيًا وأصيب أكثر من ألف آخرين. وتم انتشال جثامين 627 شهيدًا من تحت الأنقاض.
وخلافًا لمزاعم إسرائيلية وأميركية، فإن إسرائيل تواصل سياسة تجويع الغزيين. وأفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أمس، بأن إسرائيل سمحت بدخول 14,534 شاحنة مساعدات إلى القطاع، بدلًا من 37,200 شاحنة كان يُفترض دخولها في الشهرين الأخيرين، وكانت محملة بالسلع منخفضة القيمة الغذائية، ومنعت إسرائيل دخول عشرات الأصناف الحيوية الضرورية لسكان القطاع.
العدوان الإسرائيلي متواصل فيما يضرب المنخفض الجوي الحالي قطاع غزة ويشكل خطرًا كبيرًا على سكانه. وأعلن الدفاع المدني في غزة، أمس، أنه تلقى أكثر من 2500 نداء استغاثة نتيجة المنخفض الجوي، وتسبّب بأضرار كبيرة بخيام النازحين، وأكد أن "القطاع يواجه تحديات قاهرة، حيث تضطر العائلات للنزوح من منطقة إلى أخرى بحثًا عن مأوى آمن"، وحذر الدفاع من أن المنخفض الجوي قد يؤدي إلى جرف المباني الآيلة للسقوط، ما يشكل خطرًا حقيقيًا على حياة السكان.
وحذرت وكالة الأونروا من أن هطول الأمطار في قطاع غزة يضيف صعوبات جديدة ويزيد خطورة الأوضاع المعيشية المتردية أصلًا، وأشارت إلى أن البرد الشديد والاكتظاظ وانعدام النظافة، يزيد من مخاطر انتشار الأمراض والعدوى بين السكان، خاصة في ظل غياب المأوى الملائم والخدمات الأساسية.
الضفة الغربية: بؤر استيطانية بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي
بدأت إسرائيل، هذا الأسبوع، ببناء جدار على طول الحدود الأردنية، التي يفصل قسم كبير منها بين الأردن والضفة الغربية. وقال وزير الأمن، يسرائيل كاتس، إن بناء الجدار سيعزز الاستيطان في الضفة "من أجل ترسيخ سيطرتنا في المنطقة وتعزيز الاستيطان كعنصر إستراتيجي في أمننا القومي".
يأتي بناء هذا الجدار وتوسيع الاستيطان في ظل المخطط الإسرائيلي لضم الضفة. وقال ضابط برتبة عقيد في الجيش الإسرائيلي لقناة "كان"، هذا الأسبوع، إن البؤر الاستيطانية العشوائية على شكل مزارع، تُقام بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي منذ تولي الجنرال أفي بلوط منصب قائد القيادة الوسطى للجيش، وأنه منذ تموز/يوليو عام 2024، "نحن لا نعلم فقط أن المستوطنين سيقيمون بؤرًا استيطانية وإنما نشارك في إقامتها، وقبل ذلك كانت تُقام البؤر الاستيطانية بدون علم مسبق للجيش، أي أنها كانت تُقام في الليل ونضطر إلى الموافقة عليها كحقيقة ناجزة".
وأضاف الضابط أن بلوط أصدر أمرًا عسكريًا يقضي "بإقامة بؤرة استيطانية بالتنسيق" مع الجيش، وتخطيط لحجم قوات الجيش لحراسة البؤرة الاستيطانية وعدد الكرافانات التي ستُدخل إليها. وأشار إلى أنه يوجد في كل بؤرة استيطانية أربعة إلى خمسة جنود، وأن هناك أكثر من 100 بؤرة استيطانية كهذه، "أي أكثر من 500 جندي، وهؤلاء قوة بحجم كتيبة كاملة مهمتها حراسة البؤر الاستيطانية فقط".
وأشار الضابط إلى أن "هذه حلقة لا أحد ينجح في السيطرة عليها. تُقام بؤرة استيطانية، وتحدث احتكاكًا (واجهات مع فلسطينيين)، وهذا الاحتكاك يؤدي إلى احتكاك آخر، وهذا يؤدي إلى تنفيذ عملية مسلحة، التي تؤدي إلى توسيع البؤرة الاستيطانية والرغبة في تحويلها إلى مستوطنة، وهذا حدث لا ينتهي. والجيش ينشغل متعمدًا في حدث ليس قانونيًا وليس ضمن مهماته".
ونقلت قناة "كان" عن تحذير لضباط إسرائيليين كبار، في آذار/مارس الماضي، أنه "منذ بداية عام 2024 وحتى اليوم تم توثيق أكثر من 200 خرق لأعمال بناء في المستوطنات، بينها 36 مزرعة استيطانية وعدة عشرات بؤر استيطانية. والأمر المثير للقلق أكثر هو أن معظم المزارع الجديدة أُقيمت بعلم ومصادقة جهات مختلفة في الجيش".
ونقلت القناة عن وزير المالية الإسرائيلي والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، قوله إن "هذه المزارع الاستيطانية ليست قانونية، ونحن نعمل كي تكون قانونية"، ثم تراجع عن أقواله قائلًا إنه "لست مقتنعًا أنها ليست قانونية".
تجمع للهيئات النقابية والنسائية أمام الاسكوا بمناسبة الذكرى ال77 للإاعلان العالمي لحقوق الإنسان
وتسليم مذكرة إلى الامين العام للامم المتحدة
في ختام حملة ال 16 المناهضة العنف ضد المرأة في العاشر من ديسمبر، وفي إطار الحملة الوطنية من أجل القضاء على كل اشكال العنف والتمييز ضد المرأة، ومن أجل الحرية والكرامة والحقوق الإنسانية ، نظم الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان وجمعية مساواة – وردة بطرس للعمل النسائي إلى جانب مجموعة من الاتحادات النقابية والنسائية تجمعاً أمام مقر الامم المتحدة – الاسكوا في وسط العاصمة بيروت، بحضور عدد من الفعاليات السياسية والاجتماعية.. بعد قراءة المذكرة المرفوعة إلى الامين العام للامم المتحدة من قبل د. ماري ناصيف – الدبس. جرى تسليم المذكرة إلى ممثلة الامين العام للامم المتحدة من خلال وفد من الجمعيات الموقعة على البيان.
وتسليم مذكرة إلى الامين العام للامم المتحدة
في ختام حملة ال 16 المناهضة العنف ضد المرأة في العاشر من ديسمبر، وفي إطار الحملة الوطنية من أجل القضاء على كل اشكال العنف والتمييز ضد المرأة، ومن أجل الحرية والكرامة والحقوق الإنسانية ، نظم الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان وجمعية مساواة – وردة بطرس للعمل النسائي إلى جانب مجموعة من الاتحادات النقابية والنسائية تجمعاً أمام مقر الامم المتحدة – الاسكوا في وسط العاصمة بيروت، بحضور عدد من الفعاليات السياسية والاجتماعية.. بعد قراءة المذكرة المرفوعة إلى الامين العام للامم المتحدة من قبل د. ماري ناصيف – الدبس. جرى تسليم المذكرة إلى ممثلة الامين العام للامم المتحدة من خلال وفد من الجمعيات الموقعة على البيان.
ربطا نص المذكرة مع الموقعين:
مذكرة موجّهة إلى منظمة الأمم المتحدة
حضرة الأمين العام للأمم المتحدة
السيد أنطونيو غوتيريش المحترم
ومنه إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة
في مثل هذا اليوم من كل عام، نتوجه إليكم، وعبركم إلى الأمم المتحدة، دون أن نلقى منكم جوابا شافيا على مطلبنا الأساس المتمثل بمواجهة العنف الذي تعاني منه النساء في لبنان والمنطقة، إن بسبب العدوان الصهيوني المستمر والمدعوم من إدارة الولايات المتحدة وكل أنظمة البلدان المنضوية في حلف الناتو، أم بفعل الأعراف والتقاليد، أم نتيجة الأنظمة القائمة على القمع والاستغلال في منطقتنا... ولم يعد الأمر محمولا بعد اتساع رقعة العدوان والنزاعات المسلحة التي أدت إلى استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من نسائنا وبناتنا، وإلى نزوح الملايين ممن فقدن أزواجهن وأولادهن عدا عن بيوتهن وأرزاقهن، بدءا بغزة والسودان ووصولا إلى لبنان حيث لا يزال العدو الصهيوني يقتل، ويدمر، ويحرق المحاصيل، ويمنع عودة الأهالي إلى قراهم لإعادة إعمار ما تهدّم. وهكذا تخضع النساء في لبنان إلى عنف مثلث الأطراف: عنف العدوان، والعنف الأسري، والعنف الاقتصادي-الاجتماعي المتفاقم بتفاقم الأزمة التي تعيشها منذ سنوات.
حضرة الأمين العام
تؤكّد شرعة حقوق الانسان، التي نحتفل اليوم بها، على أن "جميع الناس يولدوا أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وأن "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع"...كما ينطلق ميثاق الأمم المتحدة من أن شعوب الأمم المتحدة ”عازمة على حماية الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي ألحقت بالبشرية، مرتين في غضون حياة واحدة، معاناة لا توصف“، كما يعلن أيضاً ”إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الإنسان وقيمته، وبالمساواة في الحقوق بين الرجال والنساء، وبين الأمم الكبيرة والصغيرة“.
مرّ 77 عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول عام 1948، ولم يتغيّر أي شي، بل ازدادت الأمور تعقيدا وسوءا، وأصبح انتهاك الشرعة مسألة عادية طالما أن الحق معطى للأنظمة في أن تمتنع عن التوقيع على معاهدة، أو إبرامها، أو التحفظ عليها، ومع ذلك تبقى عضويتها محفوظة؛ لا بل أن البعض يتصرّف كيفما يشاء مع شعبه وجيرانه دون خوف أو وجل. ولا ننسى حق النقض-الفيتو الذي يخيم شبحه على العالم.
من هنا ندعوكم، وعبركم إلى الدول التي ترفض العنف بكافة أشكاله، لإتخاذ مواقف عملية تعيد لمنظمة الأمم المتحدة الدور الذي أنشئت من أجله، الا وهو الحفاظ على الإنسان وكرامته وحقوقه، وعلى وجه الخصوص حقوق النساء.
وتقضّلوا بقبول الاحترام
الموقعون:
- الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان – الرئيس كاسترو عبد الله
- جمعية مساواة – وردة بطرس للعمل النسائي – الرئيسة د. ماري ناصيف- الدبس
- لجنة حقوق المرأة اللبنانية – الرئيسة عائدة نصر الله - الحلواني
- الجمعية النسائية للخدمات الاجتماعية – الرئيسة د. ليندا مرتضى الحسيني، ونائية رئيسة المجلس النسائي اللبناني
- مركز التواصل الاجتماعي – نائبة الرئيس فريال الشيخ سليم
- اتحاد البناء والاخشاب – الرئيس نقولا نهرا
- نقابة عمال المخابز – الرئيس شحادي المصري
- مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب – المؤسس محمد صفا
- اللقاء الوطني للقضاء على التمييز ضد المرأة – عضوة ثريا هاشم حيدر
- المنظمة النسائية الديمقراطية الفلسطينية – ندى – خالدات حسين
- رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية - مسؤولة لجنة المرأة في الرابطة حنان عثمان
- اتحاد لجان المرأة العاملة الفلسطينية في لبنان – مشرفة الاتحاد دنيا خضر
- اتحاد العمال والمستخدمين في البقاع – الرئيس جهاد المعلم
- نقابة عمال المطابع – الرئيسة انعام العبدلله
- نقابة عمال البناء – أمين السر علي أيوب
- نقابة عمال دهاني الديكور – الرئيس غسان حجازي
- للاتحاد الديمقراطي الفلسطيني.- اقليم لبنان - مسؤولة العمل النسوي ايمان العلي
- جمعية درب الوفاء للمعاقين الاجتماعية – مسؤولة الجمعية هيام بكر
- نقابة عاملات وعمال الخياطة – الرئيس حسين عليق
- نقابة تنجيد المفروشات – أحمد البزال
- نقابة العاملات بالخدمة المنزلية – مريم بشير
- فرع الاتحاد الوطني في الجنوب – علي بدير
- اللجنة التأسيسية لنقابة العاملين بالتعليم – نسرين عثمان
- اللجنة التأسيسية لنقابة العاملين بالقطاع الصحي – سهير ملص
- نقابة العاملين بصناعة الأحذية – رضا سعد
- اتحاد الصناعات الغذائية – محمود شحادي
بيروت في 10/12/2025
الحزب الشيوعي اللبناني يلتقي رئيس الحكومة نواف سلام
في اطار سلسلة اللقاءات التي تقوم بها قيادة الحزب مع الرؤساء والقوى السياسية.
إلتقى ظهر اليوم وفد من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني برئاسة الأمين العام للحزب الرفيق حنا غريب وأعضاء من المكتب السياسي مع دولة رئيس الحكومة نواف سلام. وكان اللقاء مناسبة أدان بها الأمين العام بداية الأعتـ.ـداءات الصهـ.ـيونية اليوم على لبنان كما طرح وفد الحزب وجهة نظره من القضايا الوطنية والسياسية والإجتماعية ، مقدّما مذكرة شاملة بهذا الخصوص.
وخلال اللقاء أكدّ وفد الحزب على أن وطننا لبنان يعيش مرحلة سياسية يواجه فيها أشدّ المخاطر والأزمات في تاريخه الحديث، أزمة عميقة تعصف بنظامه السياسي والاقتصادي في الداخل، يفاقمها عـ.ـدوان واحتـ.ـلال صهـ.ـيوني وضغوط أميركية وتدخلات خارجية إقليمية ودولية، في محاولة لإلحاقه بمشروع الشرق الأوسط الجديد. في مواجهة هذه المخاطر المصيرية، تم التأكيد على حقّ الشعب اللبناني بالمقـ.ـاومة طالما هناك احتـ.ـلال، وفي مقـ.ـاومة وطنية لا تقتصر على طائفة او منطقة معينة، بل تكون عابرةً للمناطق والطوائف والمذاهب وموحّدة للأهداف والجهود والطاقات. وعلى تلازم حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية بمقـ.ـاومتها للاحتـ.ـلال وفي اطار خطة وطنية تحفظ مصلحة لبنان : بأن تكون المفاوضات غير مباشرة ومحصورة بالجانب الأمني مع "إسرائيل" ، بهدف وقف العـ.ـدوان وفرض انسحاب قوات الاحتـ.ـلال الصهـ.ـيوني حتى خط الهدنة وتحرير الأسرى اللبنانيين وإعادة إعمار المناطق المتضرّرة وعودة الأهالي، بالتزامن مع تسليح الجيش اللبناني وتعزيز قدراته على كل المستويات، مقترحا وفد الحزب العودة الى خدمة العلم التي ينخرط فيها كل شباب لبنان، لتمكينه من الدفاع عن لبنان وشعبه وأرضه، إضافة إلى إعلان التعبئة الوطنية العامة، في مواجهة المطامع التوسعية للعـ.ـدو المتصاعدة ومحاولاته فرض أشكال شتّى من التطبيع وضم قرى الشريط الحدودي تحت عنوان "المنطقة العازلة"، "والمنطقة الاقتصادية". كما طالب وفد الحزب باعتماد الحوار بديلا عن الخطاب الطائفي الانقسامي بهدف حماية السلم الأهلي وانتاج تفاهم لبناني – لبناني عبر مؤتمر وطني يشارك فيه الجميع ليس فقط حول حصرية السلاح بل يشمل أيضا ادخال إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في مقدمتها تطبيق المادة 22 من الدستور في الانتخابات النيابية المقبلة وعلى أساس النسبية خارج القيد الطائفي والدوائر الكبرى ، وبتنفيذ الإجراءات التي تؤمّن استرجاع الأموال العامة المنهوبة وودائع صغار ومتوسطي المودعين ومعاشات التقاعد وتعويضات العمال والمهنيين في الصناديق الضامنة، وتوفير كل ما يحتاجه أهلنا النازحين من الجنوب والصامدين في قراهم وتصحيح الرواتب والأجور وتطوير الخدمات العامة الأساسية في الصحة والتعليم والنقل العام والسكن. من جانبه أكّد الرئيس نواف سلام صعوبة الأوضاع السياسية والأمنية والأقتصادية التي يعيشها لبنان في المجالات كافة، وان المفاوضات مع " اٍسرائيل" لا تندرج في إطار "الصلح " أو التطبيع، بل تستهدف "آليات التطبيق" للوصول إلى خط الهدنة، كما طرح، في المجال الاجتماعي، سعي الحكومة لإسترداد أموال صغار المودعين كاملة، اما بالنسبة لتصحيح الرواتب والأجور فالقضية مطروحة أخذا بعين الاعتبار الظروف وواقع الحال.
في اطار سلسلة اللقاءات التي تقوم بها قيادة الحزب مع الرؤساء والقوى السياسية.
إلتقى ظهر اليوم وفد من قيادة الحزب الشيوعي اللبناني برئاسة الأمين العام للحزب الرفيق حنا غريب وأعضاء من المكتب السياسي مع دولة رئيس الحكومة نواف سلام. وكان اللقاء مناسبة أدان بها الأمين العام بداية الأعتـ.ـداءات الصهـ.ـيونية اليوم على لبنان كما طرح وفد الحزب وجهة نظره من القضايا الوطنية والسياسية والإجتماعية ، مقدّما مذكرة شاملة بهذا الخصوص.
وخلال اللقاء أكدّ وفد الحزب على أن وطننا لبنان يعيش مرحلة سياسية يواجه فيها أشدّ المخاطر والأزمات في تاريخه الحديث، أزمة عميقة تعصف بنظامه السياسي والاقتصادي في الداخل، يفاقمها عـ.ـدوان واحتـ.ـلال صهـ.ـيوني وضغوط أميركية وتدخلات خارجية إقليمية ودولية، في محاولة لإلحاقه بمشروع الشرق الأوسط الجديد. في مواجهة هذه المخاطر المصيرية، تم التأكيد على حقّ الشعب اللبناني بالمقـ.ـاومة طالما هناك احتـ.ـلال، وفي مقـ.ـاومة وطنية لا تقتصر على طائفة او منطقة معينة، بل تكون عابرةً للمناطق والطوائف والمذاهب وموحّدة للأهداف والجهود والطاقات. وعلى تلازم حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية بمقـ.ـاومتها للاحتـ.ـلال وفي اطار خطة وطنية تحفظ مصلحة لبنان : بأن تكون المفاوضات غير مباشرة ومحصورة بالجانب الأمني مع "إسرائيل" ، بهدف وقف العـ.ـدوان وفرض انسحاب قوات الاحتـ.ـلال الصهـ.ـيوني حتى خط الهدنة وتحرير الأسرى اللبنانيين وإعادة إعمار المناطق المتضرّرة وعودة الأهالي، بالتزامن مع تسليح الجيش اللبناني وتعزيز قدراته على كل المستويات، مقترحا وفد الحزب العودة الى خدمة العلم التي ينخرط فيها كل شباب لبنان، لتمكينه من الدفاع عن لبنان وشعبه وأرضه، إضافة إلى إعلان التعبئة الوطنية العامة، في مواجهة المطامع التوسعية للعـ.ـدو المتصاعدة ومحاولاته فرض أشكال شتّى من التطبيع وضم قرى الشريط الحدودي تحت عنوان "المنطقة العازلة"، "والمنطقة الاقتصادية". كما طالب وفد الحزب باعتماد الحوار بديلا عن الخطاب الطائفي الانقسامي بهدف حماية السلم الأهلي وانتاج تفاهم لبناني – لبناني عبر مؤتمر وطني يشارك فيه الجميع ليس فقط حول حصرية السلاح بل يشمل أيضا ادخال إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في مقدمتها تطبيق المادة 22 من الدستور في الانتخابات النيابية المقبلة وعلى أساس النسبية خارج القيد الطائفي والدوائر الكبرى ، وبتنفيذ الإجراءات التي تؤمّن استرجاع الأموال العامة المنهوبة وودائع صغار ومتوسطي المودعين ومعاشات التقاعد وتعويضات العمال والمهنيين في الصناديق الضامنة، وتوفير كل ما يحتاجه أهلنا النازحين من الجنوب والصامدين في قراهم وتصحيح الرواتب والأجور وتطوير الخدمات العامة الأساسية في الصحة والتعليم والنقل العام والسكن. من جانبه أكّد الرئيس نواف سلام صعوبة الأوضاع السياسية والأمنية والأقتصادية التي يعيشها لبنان في المجالات كافة، وان المفاوضات مع " اٍسرائيل" لا تندرج في إطار "الصلح " أو التطبيع، بل تستهدف "آليات التطبيق" للوصول إلى خط الهدنة، كما طرح، في المجال الاجتماعي، سعي الحكومة لإسترداد أموال صغار المودعين كاملة، اما بالنسبة لتصحيح الرواتب والأجور فالقضية مطروحة أخذا بعين الاعتبار الظروف وواقع الحال.
عن معنى التطبيع اليوم: تلزيم الإقليم لإسرائيل كـ«حُلم أبله»
وليد شرارة
دائماً ما اعتبرت النخب الحاكمة في العالم العربي، أن السلام مع الكيان الصهيوني، أي الاعتراف بشرعية اغتصابه لفلسطين وتطهيره إيّاها عرقياً، وإقامة علاقات طبيعية معه، هو المعبر الذي لا بدّ منه للارتقاء بعلاقاتها مع الولايات المتحدة إلى مستوى «التحالف». دشّن أنور السادات هذا النهج في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد توقيعه على «اتفاقية كامب ديفيد»، مكرّساً دخول مصر إلى نادي حلفاء الولايات المتحدة، وقطيعة كاملة مع المرحلة الناصرية وثوابتها وأهدافها. وجميع من سار على خطاه في بداية تسعينيات القرن، أي في مرحلة طغيان الأحادية الأميركية، كان يرمي إلى تحقيق الهدف نفسه، أي الحصول على «شرف الانتساب» إلى النادي إيّاه، والتمتّع بما يؤمّنه من حماية للحكام وطول بقاء، في مقابل الولاء للمركز الإمبراطوري المهيمن.
ذاك كان منظور غالبية الحكّام العرب. أمّا من منظور إسرائيل، في تلك المدة نفسها، فإن التطبيع كان يعني إنشاء منظومة إقليمية مندمجة تضمّها والدول العربية، وصيرورتها هي مركزاً تكنولوجياً واقتصادياً لـ«محيط» يقدّم الرساميل والأيدي العاملة الرخيصة، في تقسيم للعمل مطابق لذلك الذي كان سائداً في الماضي على النطاق الدولي، بين الغرب وبلدان الجنوب. شرح شمعون بيريز هذه الرؤية بإسهاب في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، مبيّناً أن إسرائيل كانت تسعى إلى الهيمنة على الجوار أولاً من البوابة التكنو-اقتصادية. لكن غالبية الدول العربية رفضت اقتراحات تل أبيب لـ«سلام حارّ» وقتذاك، وطرحت في مقابلها ما سُمّي بـ«السلام البارد»، أي الاعتراف المتبادل بعد انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، من دون القبول بمشروع الهيمنة الاقتصادي والتكنولوجي، ثمّ الاستراتيجي الإسرائيلي. وقد أفضى هذا الرفض إلى تشكّل المحور السوري - المصري - السعوي في سنة 1994، وتحديداً بعد قمة الإسكندرية بين الرئيسَين، السوري حافظ الأسد والمصري حسني مبارك، والملك السعودي فهد بن عبد العزيز. بكلام آخر، كان الموقف العربي في الحقبة المشار إليها هو الموافقة على «السلام» من دون تطبيع شامل.
شكّلت «المبادرة العربية للسلام»، التي جرى الإعلان عنها في قمة بيروت في آذار 2002، محطّة جديدة في مسار تراجع الأنظمة العربية عن ثوابتها المعلنة سابقاً؛ إذ وافقت هذه الأخيرة على «التطبيع الشامل» في مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة، لكن الطرف الإسرائيلي تجاهَل ببساطة هذا العرض «السخي». ولا حاجة هنا إلى العودة التفصيلية إلى السياق الدولي الذي حكم موقف الأطراف العربية، بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001، والتلويح الأميركي بالويل والثبور وعظائم الأمور حيال تلك الأطراف. باختصار، كانت «المبادرة العربية» تبغي أساساً نيل الرضى الأميركي، وتأكيد الولاء والاندراج في إطار الاستراتيجية الإقليمية والعالمية لواشنطن.
معنى التطبيع راهناً مختلف جذرياً عمّا كان عليه في المراحل التاريخية السابقة. ليس المقصود منه تأكيد التحالف مع الولايات المتحدة، استراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً؛ فهذا الأمر هو حقيقة صلبة منذ زمن بعيد بالنسبة إلى بعض الدول الخليجية، أو بات واقعاً مع وصول الفريق الحالي الحاكم إلى السلطة في سوريا. المطلوب الآن من هؤلاء ومن غيرهم هو التسليم بالهيمنة العسكرية والاستراتيجية لإسرائيل على الإقليم، باعتبارها وكيلاً للولايات المتحدة. لا بدّ من الالتفات إلى أن هذه المقولة، أي الهيمنة الإسرائيلية الشرق أوسطية، أضحت رائجة الاستخدام في الخطاب السياسي لعدد من المسؤولين والخبراء الأميركيين والغربيين، وآخرهم جيرار آرو، الديبلوماسي الفرنسي السابق وأحد الأقطاب الفكريين لوزارة خارجية ذلك البلد. فقد رأى آرو، في مقابلة مع إذاعة «راديو كلاسيك» الفرنسية أخيراً، أن إسرائيل أصبحت «القوة المهيمنة على الشرق الأوسط، وعليها ألّا تكتفي باللجوء المفرط إلى العمليات العسكرية فقط، بل أن تقترح أيضاً تصورات سياسية للمستقبل الذي تريده في المنطقة».
كشفت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي أعلن عنها البيت الأبيض في الـ5 من الشهر الجاري، أن واشنطن لم تعُد تضع هذا الإقليم على رأس جدول أولوياتها، وأنها تعتقد أن تلزيمه لإسرائيل، بعد استكمال الحرب على قوى المقاومة، للإجهاز على الأخيرة وإجبار الحلفاء على التسليم بالهيمنة الإسرائيلية الرديفة، كفيل بأن يضمن المصالح الحيوية للإمبراطورية، وبإفساح المجال لها للتفرّغ لأولوياتها الأخرى. يشي نصّ هذه الوثيقة، وغيرها من المواقف التي أدلى بها دونالد ترامب وفريقه بأننا أمام إدارة خرقاء ستقود خياراتها وسياساتها إلى تأجيج الصراعات مع خصومها في أنحاء مختلفة من العالم، وتسعير التناقضات مع حلفائها التقليديين، ما سيحول دون نجاحها في الوصول إلى غاياتها. لن يتحقق التطبيع على وقع الإبادة والقتل والتدمير كما يأمل بعض المأفونين في لبنان، وستحمل الأسابيع والأشهر القادمة تطوّرات ستبدد آمالهم وأحلامهم، كما تبدّدت آمال قادتهم الذين سبقوهم على الدرب إيّاه.
وليد شرارة
دائماً ما اعتبرت النخب الحاكمة في العالم العربي، أن السلام مع الكيان الصهيوني، أي الاعتراف بشرعية اغتصابه لفلسطين وتطهيره إيّاها عرقياً، وإقامة علاقات طبيعية معه، هو المعبر الذي لا بدّ منه للارتقاء بعلاقاتها مع الولايات المتحدة إلى مستوى «التحالف». دشّن أنور السادات هذا النهج في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد توقيعه على «اتفاقية كامب ديفيد»، مكرّساً دخول مصر إلى نادي حلفاء الولايات المتحدة، وقطيعة كاملة مع المرحلة الناصرية وثوابتها وأهدافها. وجميع من سار على خطاه في بداية تسعينيات القرن، أي في مرحلة طغيان الأحادية الأميركية، كان يرمي إلى تحقيق الهدف نفسه، أي الحصول على «شرف الانتساب» إلى النادي إيّاه، والتمتّع بما يؤمّنه من حماية للحكام وطول بقاء، في مقابل الولاء للمركز الإمبراطوري المهيمن.
ذاك كان منظور غالبية الحكّام العرب. أمّا من منظور إسرائيل، في تلك المدة نفسها، فإن التطبيع كان يعني إنشاء منظومة إقليمية مندمجة تضمّها والدول العربية، وصيرورتها هي مركزاً تكنولوجياً واقتصادياً لـ«محيط» يقدّم الرساميل والأيدي العاملة الرخيصة، في تقسيم للعمل مطابق لذلك الذي كان سائداً في الماضي على النطاق الدولي، بين الغرب وبلدان الجنوب. شرح شمعون بيريز هذه الرؤية بإسهاب في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، مبيّناً أن إسرائيل كانت تسعى إلى الهيمنة على الجوار أولاً من البوابة التكنو-اقتصادية. لكن غالبية الدول العربية رفضت اقتراحات تل أبيب لـ«سلام حارّ» وقتذاك، وطرحت في مقابلها ما سُمّي بـ«السلام البارد»، أي الاعتراف المتبادل بعد انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، من دون القبول بمشروع الهيمنة الاقتصادي والتكنولوجي، ثمّ الاستراتيجي الإسرائيلي. وقد أفضى هذا الرفض إلى تشكّل المحور السوري - المصري - السعوي في سنة 1994، وتحديداً بعد قمة الإسكندرية بين الرئيسَين، السوري حافظ الأسد والمصري حسني مبارك، والملك السعودي فهد بن عبد العزيز. بكلام آخر، كان الموقف العربي في الحقبة المشار إليها هو الموافقة على «السلام» من دون تطبيع شامل.
شكّلت «المبادرة العربية للسلام»، التي جرى الإعلان عنها في قمة بيروت في آذار 2002، محطّة جديدة في مسار تراجع الأنظمة العربية عن ثوابتها المعلنة سابقاً؛ إذ وافقت هذه الأخيرة على «التطبيع الشامل» في مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة، لكن الطرف الإسرائيلي تجاهَل ببساطة هذا العرض «السخي». ولا حاجة هنا إلى العودة التفصيلية إلى السياق الدولي الذي حكم موقف الأطراف العربية، بعد عمليات الـ11 من أيلول 2001، والتلويح الأميركي بالويل والثبور وعظائم الأمور حيال تلك الأطراف. باختصار، كانت «المبادرة العربية» تبغي أساساً نيل الرضى الأميركي، وتأكيد الولاء والاندراج في إطار الاستراتيجية الإقليمية والعالمية لواشنطن.
معنى التطبيع راهناً مختلف جذرياً عمّا كان عليه في المراحل التاريخية السابقة. ليس المقصود منه تأكيد التحالف مع الولايات المتحدة، استراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً؛ فهذا الأمر هو حقيقة صلبة منذ زمن بعيد بالنسبة إلى بعض الدول الخليجية، أو بات واقعاً مع وصول الفريق الحالي الحاكم إلى السلطة في سوريا. المطلوب الآن من هؤلاء ومن غيرهم هو التسليم بالهيمنة العسكرية والاستراتيجية لإسرائيل على الإقليم، باعتبارها وكيلاً للولايات المتحدة. لا بدّ من الالتفات إلى أن هذه المقولة، أي الهيمنة الإسرائيلية الشرق أوسطية، أضحت رائجة الاستخدام في الخطاب السياسي لعدد من المسؤولين والخبراء الأميركيين والغربيين، وآخرهم جيرار آرو، الديبلوماسي الفرنسي السابق وأحد الأقطاب الفكريين لوزارة خارجية ذلك البلد. فقد رأى آرو، في مقابلة مع إذاعة «راديو كلاسيك» الفرنسية أخيراً، أن إسرائيل أصبحت «القوة المهيمنة على الشرق الأوسط، وعليها ألّا تكتفي باللجوء المفرط إلى العمليات العسكرية فقط، بل أن تقترح أيضاً تصورات سياسية للمستقبل الذي تريده في المنطقة».
كشفت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي أعلن عنها البيت الأبيض في الـ5 من الشهر الجاري، أن واشنطن لم تعُد تضع هذا الإقليم على رأس جدول أولوياتها، وأنها تعتقد أن تلزيمه لإسرائيل، بعد استكمال الحرب على قوى المقاومة، للإجهاز على الأخيرة وإجبار الحلفاء على التسليم بالهيمنة الإسرائيلية الرديفة، كفيل بأن يضمن المصالح الحيوية للإمبراطورية، وبإفساح المجال لها للتفرّغ لأولوياتها الأخرى. يشي نصّ هذه الوثيقة، وغيرها من المواقف التي أدلى بها دونالد ترامب وفريقه بأننا أمام إدارة خرقاء ستقود خياراتها وسياساتها إلى تأجيج الصراعات مع خصومها في أنحاء مختلفة من العالم، وتسعير التناقضات مع حلفائها التقليديين، ما سيحول دون نجاحها في الوصول إلى غاياتها. لن يتحقق التطبيع على وقع الإبادة والقتل والتدمير كما يأمل بعض المأفونين في لبنان، وستحمل الأسابيع والأشهر القادمة تطوّرات ستبدد آمالهم وأحلامهم، كما تبدّدت آمال قادتهم الذين سبقوهم على الدرب إيّاه.
انتهاء صلاحية «السلام الإبراهيمي»: التطبيع مع «مملكة بيبي» لا يغري أحداً
حسين إبراهيم
في الوقت الذي تتوقّع فيه أميركا وإسرائيل أن تؤدي الحرب التي خيضت بأيدٍ إسرائيلية خلال السنتَين الماضيتين على عدد من الدول العربية، إلى توسيع «الاتفاقات الإبراهيمية» لتضمّ دولاً عربية وإسلامية أخرى، تُطرح تساؤلات كثيرة حول الأسس التي قامت عليها تلك الاتفاقات، وما إذا كانت الدول التي ترشّحها الولايات المتحدة للانضمام إليها، تَعتبرها مناسبة لها أم لا. في برنامج «في الصورة» الذي يقدّمه الإعلامي السعودي، عبد الله المديفر، على قناة «روتانا خليجية»، يقول الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية، تركي الفيصل، إن تسمية «الاتفاقات بالإبراهيمية ينطبق عليها قول: كلمة حق أُريد بها باطل. فالاتفاقات التي حصلت بين إسرائيل وبين الدول، التي أصبحت الآن تُسمى إبراهيمية، في نظري، ليس لعلاقتها بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وإنما هي اتفاقية سياسية بين دول وصلت إلى قناعة لإيجاد تعامل بينها وبين بعضها. سيدنا إبراهيم نخليه على مستوى الأنبياء والرُسُل ولا ندخله في مثل هذا الأمر».
هذا الكلام يعني، بدقّة، أن الاتفاقات التي وُقّعت بين كلّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وبين إسرائيل، جاءت من خارج سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن تلك الدول إنّما وقّعت عليها لأنها تعتبر نفسها خارج الصراع أصلاً، إن لم تكن قد انتقلت إلى الضفة الإسرائيلية فيه، وذلك لتحقيق مصالح معينة. كما يعني كلام الفيصل أن الاتفاقات، إذا كان يجب أن تُسمّى «إبراهيمية»، فيتعيّن أن تؤدي إلى مصالحة تعطي أصحاب الحقوق الحدّ الأدنى من حقوقهم، أو حتى الكمّ الذي يعترف لهم العالم به. لكن المغزى الأهمّ لتصريح الفيصل، الذي يعدّ أحد الخبراء المُلهِمين لصنّاع القرار الحاليين في الرياض، هو أن السعودية، إذا كانت ستنخرط في صفقة لتطبيع العلاقات مع العدو، فإن «الاتفاقات الإبراهيمية» ليست هي النموذج الصحيح أو الصالح بالنسبة إليها، وهو ما يدلّ عليه أيضاً اشتراطها، لعقد صفقة كهذه، أن تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية، بغضّ النظر عن التفاصيل التي يمكن أن تصل إليها المفاوضات لإقامة تلك الدولة.
«الاتفاقات الإبراهيمية» التي وُقّعت على مراحل اعتباراً من أيلول 2020، حين أمضتها الإمارات والبحرين، كانت نتيجتها تحكيم إسرائيل بسياسات الدول الموقّعة، ولا سيما في ما يتعلّق بالأمن. إذ إن أيّ متابعة للمسار الذي سلكته العلاقات بين إسرائيل والدول المعنيّة، تُظهر أن مصالح الأولى الأمنية والاقتصادية صارت البند الأساسي في برامج حكم ثلاثة من تلك البلدان، هي الإمارات والبحرين والمغرب، في حين أن الرابع يغرق في حرب أهلية دموية، يكفي القول إن الإمارات تموّل الطرف الأكثر شراسة وإجراماً فيها، أي «قوات الدعم السريع»، لتبيان أنها هي الأخرى تصبّ تماماً في مصلحة تل أبيب، وذلك من بوّابتَي الاقتتال والتفتيت، اللذين يمثّلان صُلب العقيدة الإسرائيلية إزاء المحيط العربي. أمّا اليوم، فإذا كانت السعودية لا تستسيغ «السلام الإبراهيمي»، فلن تكون ثمّة موجة أخرى من تلك الاتفاقات - إلّا إذا انضمّت بعض الأطراف البعيدة من الصراع، لأسباب خاصة بها، إليها، بل إن ما سيحصل هو إمّا «سلام بالإكراه» نتيجة الدفع الأميركي والغربي، وهو ما ينطبق ربّما على سوريا ولبنان أكثر من غيرهما؛ وإمّا لا سلام، واستمرار الصراع بالتالي.
والواقع أن الدعم الأميركي الكبير لإسرائيل الذي يعانيه العرب، يضيّق الخيارات أمامهم إلى أبعد الحدود، إلّا حين يكون هناك خلاف أميركي - إسرائيلي على سبل المضيّ قدماً، كالحاصل اليوم بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو؛ إذ ثمّة هنا ما يضير المصالح الأميركية التي تتناسب مع شكل من السيطرة، أكثر نعومة من ذلك الذي يريده نتنياهو، الساعي إلى الحصول على استسلام علني كامل على الطريقة اليابانية أو الألمانية. وما «التراجعات» الأميركية الأخيرة التي سجّلتها تصريحات مبعوث واشنطن إلى سوريا، توم براك، في منتدى الدوحة، إلّا مؤشّر واضح إلى أن الطرف المقابل لإسرائيل ليس مهزوماً إلى الدرجة التي تضعه في موقع مَن يقبل بشروط إسرائيل، ولا سيّما تلك التي تتعلّق باحتلالها الدائم لأراض عربية خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1948.
أمّا في ما يتعلّق بدول الخليج، ولا سيما السعودية التي تُعتبر الأهم بين سائر الدول المرشّحة للانضمام إلى ركب التطبيع، والقاطرة التي ستقود دولاً عربية وإسلامية أخرى إليه، فلا يبدو أن التطبيع مع حكومة إسرائيلية لديها مثل هذا البرنامج، سيكون سهلاً عليها، بل يَظهر أنه صار أبعد بكثير ممّا كان عليه عشية «طوفان الأقصى»، وهو ما تجلّى خلال زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى البيت الأبيض، وتفهّم الأخير للموقف السعودي. قبل ذلك، بدا أن من آثار الضربة التي وجّهتها إسرائيل إلى قطر خلال الحرب على قطاع غزة، في التاسع من أيلول الماضي - وإن كان المستهدف بها في الأساس قيادة حركة «حماس»، وجهود وقف إطلاق النار التي تَقدّمتها الدولة الخليجية في حينه -، أصابت «الاتفاقات الإبراهيمية»، باعتبار أن قطر كانت مرشّحة هي الأخرى للانضمام إليها، في حال توافرت ظروف للتوسعة. والرسالة من وراء تلك الضربة، التي أرادها صاحب القرار في تل أبيب، ظهرت صارخة في وضوحها، وهي أن من يريد التطبيع كأيّ دولة ليس بينها وبين إسرائيل أيّ عداء، أي على قاعدة المصالح المتبادلة ووفقاً لنمط «الاتفاقات الإبراهيمية»، فأهلاً وسهلاً به. وأمّا من يريد فرض شروط تتعلّق بمعالجة أسباب الصراع الأوسع، أي المسألة الفلسطينية، حتى لو بأدنى الحدود، فهو غير مرحَّب به.
وذلك يعني أن إسرائيل تريد التحكّم بالشرق الأوسط، وليس السلام، وأنها تجاوزت حتى معادلة «الأمن مقابل السلام»، لتصبح المعادلة الآن: «الأمن المطلق، مقابل هدوء نسبي للعرب»، تستمرّ إسرائيل في غضونه في توجيه ضربات استباقية موضعية، إلى حيث تتصوّر نشوء تهديد، من دون أيّ آلية مراجعة. والسؤال الذي يطرح نفسه في ضوء ما تقدّم، يتمحور حول مدى أهمية اتفاقات التطبيع بالنسبة إلى الولايات المتحدة. الواقع أن واشنطن، وإن كانت تحاول إغراء تل أبيب بالكلام عن توسيع تلك الاتفاقيات، إلا أن الأخيرة لا تمثّل أولوية في نظرها في علاقاتها العربية التي تشتمل على مصالح كبيرة، قد تجد أميركا معها نفسها مضطرّة إلى لجم إسرائيل، ولو بنسبة معينة.
حسين إبراهيم
في الوقت الذي تتوقّع فيه أميركا وإسرائيل أن تؤدي الحرب التي خيضت بأيدٍ إسرائيلية خلال السنتَين الماضيتين على عدد من الدول العربية، إلى توسيع «الاتفاقات الإبراهيمية» لتضمّ دولاً عربية وإسلامية أخرى، تُطرح تساؤلات كثيرة حول الأسس التي قامت عليها تلك الاتفاقات، وما إذا كانت الدول التي ترشّحها الولايات المتحدة للانضمام إليها، تَعتبرها مناسبة لها أم لا. في برنامج «في الصورة» الذي يقدّمه الإعلامي السعودي، عبد الله المديفر، على قناة «روتانا خليجية»، يقول الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية، تركي الفيصل، إن تسمية «الاتفاقات بالإبراهيمية ينطبق عليها قول: كلمة حق أُريد بها باطل. فالاتفاقات التي حصلت بين إسرائيل وبين الدول، التي أصبحت الآن تُسمى إبراهيمية، في نظري، ليس لعلاقتها بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وإنما هي اتفاقية سياسية بين دول وصلت إلى قناعة لإيجاد تعامل بينها وبين بعضها. سيدنا إبراهيم نخليه على مستوى الأنبياء والرُسُل ولا ندخله في مثل هذا الأمر».
هذا الكلام يعني، بدقّة، أن الاتفاقات التي وُقّعت بين كلّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وبين إسرائيل، جاءت من خارج سياق الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن تلك الدول إنّما وقّعت عليها لأنها تعتبر نفسها خارج الصراع أصلاً، إن لم تكن قد انتقلت إلى الضفة الإسرائيلية فيه، وذلك لتحقيق مصالح معينة. كما يعني كلام الفيصل أن الاتفاقات، إذا كان يجب أن تُسمّى «إبراهيمية»، فيتعيّن أن تؤدي إلى مصالحة تعطي أصحاب الحقوق الحدّ الأدنى من حقوقهم، أو حتى الكمّ الذي يعترف لهم العالم به. لكن المغزى الأهمّ لتصريح الفيصل، الذي يعدّ أحد الخبراء المُلهِمين لصنّاع القرار الحاليين في الرياض، هو أن السعودية، إذا كانت ستنخرط في صفقة لتطبيع العلاقات مع العدو، فإن «الاتفاقات الإبراهيمية» ليست هي النموذج الصحيح أو الصالح بالنسبة إليها، وهو ما يدلّ عليه أيضاً اشتراطها، لعقد صفقة كهذه، أن تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية، بغضّ النظر عن التفاصيل التي يمكن أن تصل إليها المفاوضات لإقامة تلك الدولة.
«الاتفاقات الإبراهيمية» التي وُقّعت على مراحل اعتباراً من أيلول 2020، حين أمضتها الإمارات والبحرين، كانت نتيجتها تحكيم إسرائيل بسياسات الدول الموقّعة، ولا سيما في ما يتعلّق بالأمن. إذ إن أيّ متابعة للمسار الذي سلكته العلاقات بين إسرائيل والدول المعنيّة، تُظهر أن مصالح الأولى الأمنية والاقتصادية صارت البند الأساسي في برامج حكم ثلاثة من تلك البلدان، هي الإمارات والبحرين والمغرب، في حين أن الرابع يغرق في حرب أهلية دموية، يكفي القول إن الإمارات تموّل الطرف الأكثر شراسة وإجراماً فيها، أي «قوات الدعم السريع»، لتبيان أنها هي الأخرى تصبّ تماماً في مصلحة تل أبيب، وذلك من بوّابتَي الاقتتال والتفتيت، اللذين يمثّلان صُلب العقيدة الإسرائيلية إزاء المحيط العربي. أمّا اليوم، فإذا كانت السعودية لا تستسيغ «السلام الإبراهيمي»، فلن تكون ثمّة موجة أخرى من تلك الاتفاقات - إلّا إذا انضمّت بعض الأطراف البعيدة من الصراع، لأسباب خاصة بها، إليها، بل إن ما سيحصل هو إمّا «سلام بالإكراه» نتيجة الدفع الأميركي والغربي، وهو ما ينطبق ربّما على سوريا ولبنان أكثر من غيرهما؛ وإمّا لا سلام، واستمرار الصراع بالتالي.
والواقع أن الدعم الأميركي الكبير لإسرائيل الذي يعانيه العرب، يضيّق الخيارات أمامهم إلى أبعد الحدود، إلّا حين يكون هناك خلاف أميركي - إسرائيلي على سبل المضيّ قدماً، كالحاصل اليوم بين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو؛ إذ ثمّة هنا ما يضير المصالح الأميركية التي تتناسب مع شكل من السيطرة، أكثر نعومة من ذلك الذي يريده نتنياهو، الساعي إلى الحصول على استسلام علني كامل على الطريقة اليابانية أو الألمانية. وما «التراجعات» الأميركية الأخيرة التي سجّلتها تصريحات مبعوث واشنطن إلى سوريا، توم براك، في منتدى الدوحة، إلّا مؤشّر واضح إلى أن الطرف المقابل لإسرائيل ليس مهزوماً إلى الدرجة التي تضعه في موقع مَن يقبل بشروط إسرائيل، ولا سيّما تلك التي تتعلّق باحتلالها الدائم لأراض عربية خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1948.
أمّا في ما يتعلّق بدول الخليج، ولا سيما السعودية التي تُعتبر الأهم بين سائر الدول المرشّحة للانضمام إلى ركب التطبيع، والقاطرة التي ستقود دولاً عربية وإسلامية أخرى إليه، فلا يبدو أن التطبيع مع حكومة إسرائيلية لديها مثل هذا البرنامج، سيكون سهلاً عليها، بل يَظهر أنه صار أبعد بكثير ممّا كان عليه عشية «طوفان الأقصى»، وهو ما تجلّى خلال زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى البيت الأبيض، وتفهّم الأخير للموقف السعودي. قبل ذلك، بدا أن من آثار الضربة التي وجّهتها إسرائيل إلى قطر خلال الحرب على قطاع غزة، في التاسع من أيلول الماضي - وإن كان المستهدف بها في الأساس قيادة حركة «حماس»، وجهود وقف إطلاق النار التي تَقدّمتها الدولة الخليجية في حينه -، أصابت «الاتفاقات الإبراهيمية»، باعتبار أن قطر كانت مرشّحة هي الأخرى للانضمام إليها، في حال توافرت ظروف للتوسعة. والرسالة من وراء تلك الضربة، التي أرادها صاحب القرار في تل أبيب، ظهرت صارخة في وضوحها، وهي أن من يريد التطبيع كأيّ دولة ليس بينها وبين إسرائيل أيّ عداء، أي على قاعدة المصالح المتبادلة ووفقاً لنمط «الاتفاقات الإبراهيمية»، فأهلاً وسهلاً به. وأمّا من يريد فرض شروط تتعلّق بمعالجة أسباب الصراع الأوسع، أي المسألة الفلسطينية، حتى لو بأدنى الحدود، فهو غير مرحَّب به.
وذلك يعني أن إسرائيل تريد التحكّم بالشرق الأوسط، وليس السلام، وأنها تجاوزت حتى معادلة «الأمن مقابل السلام»، لتصبح المعادلة الآن: «الأمن المطلق، مقابل هدوء نسبي للعرب»، تستمرّ إسرائيل في غضونه في توجيه ضربات استباقية موضعية، إلى حيث تتصوّر نشوء تهديد، من دون أيّ آلية مراجعة. والسؤال الذي يطرح نفسه في ضوء ما تقدّم، يتمحور حول مدى أهمية اتفاقات التطبيع بالنسبة إلى الولايات المتحدة. الواقع أن واشنطن، وإن كانت تحاول إغراء تل أبيب بالكلام عن توسيع تلك الاتفاقيات، إلا أن الأخيرة لا تمثّل أولوية في نظرها في علاقاتها العربية التي تشتمل على مصالح كبيرة، قد تجد أميركا معها نفسها مضطرّة إلى لجم إسرائيل، ولو بنسبة معينة.
لبنان يكسر «حرمة» التفاوض: نحو تكرار خطيئة «17 أيار»؟
حسين الأمين
يرى بعض أنصار التفاوض مع العدو الإسرائيلي، في المسار التفاوضي الذي افتُتح أخيراً بمشاركة مدنيين، فرصة لإيجاد مخرج أمني أو سياسي للبنان تحت عنوان «خروج إسرائيل من البلد ووقف اعتداءاتها عليه»، فيما يذهب آخرون أبعد من ذلك، متحدّثين عن انفتاح باب إرساء هدنة طويلة، وربما الانضمام لاحقاً إلى ركب التطبيع. ورغم أن هذا الطرح الأخير لم يتحوّل بعد إلى مبادرة علنية، إلا أن أجواء ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، والوقائع الأمنية التي أفرزتها، وتشكّل سلطة جديدة في بيروت، وسقوط النظام السوري السابق كعنصر إقليمي مؤثّر إلى حدّ بعيد، كلها عوامل تشكّل – بالنسبة إلى هؤلاء - بيئة خصبة لتكرار تجربة شبيهة باتفاق 17 أيار 1983 الذي أعقب اجتياح لبنان، والذي رُوِّج له حينها بصفته «حلاً مرحلياً» يُنهي الاحتلال، ويؤسّس لمرحلة من «السلام المؤجَّل».
في المقابل، تُدرك إسرائيل أن العقبة الفعلية أمام أي مسار تفاوضي أو سياسي، ليست في السلطة السياسية اللبنانية أو توزّع الأحزاب والقوى ومواقفها، بل ببساطة، في وجود المقاومة وسلاحها، وحضورها ضمن بيئتها الحاضنة بشكل خاص، وامتدادها إلى بيئات وطنية أخرى. ورغم ما أفرزته الحرب من وقائع، وما تخلّلها من ضربات وخسائر ثقيلة، وعلى الرغم كذلك من الضغوط المتزايدة ومحاولات الحصار السياسي والإعلامي والاقتصادي، لا تزال المقاومة تُعَدّ العنصر الأشدّ تماسُكاً في معادلة الردع، فيما ميزان الردع الذي استطاعت فرضه، يبقى حاضراً، وإن كان خاضعاً لاختبارات شديدة ومتواصلة.
وفي مواجهة تلك الوقائع، تحرص إسرائيل على الدفع بالمسار التفاوضي – سواء كان مباشراً أو غير مباشر –، مستخدمةً في ذلك وسائل متعدّدة، من التصعيد العسكري والأمني إلى الضغط السياسي والاقتصادي وحتى الإعلامي، إذ يستخدم العدو الضربات التي ينفّذها في لبنان، أداة ضغط على القرار اللبناني الرسمي أولاً، ثم على قرار المقاومة، ووسيلة لتحريك التوازنات بما يتيح له تحصيل مكاسب سياسية وأمنية أكبر، خصوصاً أن الكلفة العسكرية بالنسبة إليه، ما زالت محصورة ضمن حدود يمكن السيطرة عليها.
وفي الخلفية، فإن أصل التفاوض مع لبنان، بالنسبة إلى إسرائيل، يُعتبر مكسباً استراتيجياً في ذاته، سواء أفضى إلى تسوية سريعة أو كاملة أم لا، إذ يكفي إسرائيلياً، في المدى المنظور، كسر الموقف اللبناني التاريخي المتصلّب، منذ ما بعد إسقاط اتفاقية 17 أيار، وفتح نافذة اتصال مع بيروت – ولو عبر وسطاء –، حتى يُسجَّل ذلك كتحوّل جوهري في موقع لبنان من معادلة الصراع التاريخي. كما تؤمن إسرائيل بإمكانية تغيير الثقافة السياسية والشعبية في لبنان، بسرعة هائلة، في ظلّ وجود فريق متعاون مع الاحتلال وخاضع للإملاءات الأميركية. وتتّسق هذه الرؤية تماماً مع التوجّه الأميركي الأوسع، القائم على ضرورة كسر أعداء إسرائيل في المنطقة، وعزل إيران، وجرّ الدول العربية والإسلامية إلى اتفاقيات التطبيع المختلفة، والإبراهيمية بشكل خاص.
17 أيار 1983 أم هدنة 1949؟
لم تكن اتفاقية 17 أيار «اتفاق جلاء»، وفق ما جرى تصويرها به في حينها، بل كانت عملياً اتفاقية استسلام شبه كامل، وفق ما يدلّ عليه بوضوح نصّها وذيلها وملحقها، إذ تضمّنت إلغاء حالة العداء مع إسرائيل، وإنهاء اتفاقية الهدنة، وإرساء ترتيبات أمنية تشمل منطقة عازلة، يخضع تواجد الجيش اللبناني والقوات المسلّحة فيها لترتيبات ومعايير صارمة تحدّ من قدراتهما إلى حدّ بعيد. كما أنشأ الاتفاق «لجنة اتصال مشتركة»، تكون الولايات المتحدة فيها مشاركاً، ويُعهد إليها الإشراف على تنفيذ الاتفاق في جميع جوانبه. وهي نصّت أيضاً على فتح الحدود بين لبنان والأراضي المحتلة، لتنقّل الأفراد والبضائع بشكل طبيعي. وفوق كل ذلك، لم تنص الاتفاقية على انسحاب قوات الاحتلال فوراً من لبنان، بل في خلال مهلة تُراوِح بين ثمانية أسابيع واثني عشر أسبوعاً. وحتى هذا البند لم يتحقّق أبداً، وماطلت إسرائيل فيه أشدَّ مماطلة، وهو ما ساهم في إسقاط الاتفاقية لاحقاً، من دون أن يتحقّق الانسحاب الكامل إلا في عام 2000، بفعل المقاومة المسلّحة. وفي خصوص الوفد التفاوضي، فقد كان السفير (المتقاعد) أنطوان فتال رئيساً للوفد اللبناني خلال مفاوضات أيار 1983، وهو صاحب كتابات بالفرنسية في ذمّ الحضارة الإسلاميّة، ومواقف صريحة تنفي معاداة لبنان لإسرائيل رغم أن الأخيرة كانت لا تزال تحتلّ كامل جنوب البلاد. واليوم، يقود التفاوضَ أيضاً، للمفارقة، المندوبُ المدني في لجنة «الميكانيزم»، سفير لبنان السابق لدى الولايات المتحدة، سيمون كرم، المعروف بمواقفه – القديمة الجديدة - اليمينية والمعادية للمقاومة اللبنانية.
وبالنسبة إلى أهداف التفاوض الجاري حالياً، فيمكن فهمها، بسهولة بالغة، من خلال المواقف الصريحة والواضحة للمسؤولين الإسرائيليين والأميركيين، وبعض المنسجمين معهم في لبنان، الذين لا يتحدّثون عن «اتفاق جلاء»، بل عن خطوات على طريق التطبيع والسلام الكامل. فعقب الجلسة الأولى في الناقورة بحضور المندوب المدني، خرج مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليتحدّث عن فرص «تعاون اقتصادي» بين لبنان وإسرائيل، مفرّقاً بين هذا المسار، والمسار الأمني المستمرّ بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة بشكل شبه يومي. على أن الحديث عن «منطقة اقتصادية» ضمن الأراضي اللبنانية الحدودية، ليس سوى تغليف ساذج ومفضوح لـ»المنطقة الأمنية العازلة» التي تطلبها إسرائيل، وتدعمها فيها الولايات المتحدة.
أمّا على مستوى اللجان المشتركة، فتتمثّل اليوم في «الميكانيزم» كلّ من فرنسا والقوات الدولية، في حين يجري العمل على تنحيتهما – إخراج ممثل القوات الدولية برحيل هذه الأخيرة نهاية العام المقبل، وتهميش الدور الفرنسي إن لم يكن ممكناً إبطاله تماماً -، والإبقاء على المندوب الأميركي فقط، إلى جانب ممثّلي العدو ولبنان، كما كان الحال في لجنة الاتصال المشتركة في اتفاقية 17 أيار.
وبين ما كان في عام 1983، وما يمكن أن ينجم عن المفاوضات الجارية، يبرز اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949 بين لبنان والعدو، والذي يدعو أنصاره في لبنان إلى جعله مرجعاً لأي اتفاق مُحتمل. ويرى هؤلاء، ومن بينهم الرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، أن هذا الاتفاق لا يعني تطبيعاً أو سلاماً، وبالتأكيد ليس استسلاماً، بل هو يقف فقط عند الحدود العسكرية والأمنية، ويحقّق زوال الاحتلال ووقف الاعتداءات، إذ إن «أحكامه مبنيّة على الاعتبارات العسكرية وحدها»، كما ورد في نصّه؛ ورغم أنه يحدّد ما سُمّي بـ»خط الهدنة»، ويضع قيوداً على التواجد العسكري ضمنه، إلا أنه يفرض قيوداً على لبنان (ضمن أراضيه) وعلى إسرائيل (ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة) على حدّ سواء، وليس فقط على لبنان كما في اتفاقية أيار 1983، وهو لا يتضمّن أيضاً منطقة أمنية عازلة أو ممنوعة، وفق المطروح حالياً.
مع ذلك، ينبئ المسار الحالي للمفاوضات بين لبنان والعدو، بأن الأمور تتجه بخطىً سريعة نحو اتفاق يشبه اتفاقية 17 أيار المذمومة، وتبتعد بخطوات مماثلة عن اتفاقية الهدنة. على أن كل محطات التاريخ تثبت أن ما نتج من جولات التفاوض السابقة من اتفاقيات – على هوانها – لم يلتزم به العدو الإسرائيلي يوماً، وهو على الأرجح ما سيكون مصير أيّ اتفاق مستقبلي محتمل. ومن شأن ذلك أن يمنح أنصار المقاومة في لبنان، جرعة أمل في زمن يراد فيه انطفاء الأمل، وأدلة متجدّدة على أن إسرائيل لا تنفع معها سوى المقاومة، ومزيد من المقاومة، وإن طال الزمان!
حسين الأمين
يرى بعض أنصار التفاوض مع العدو الإسرائيلي، في المسار التفاوضي الذي افتُتح أخيراً بمشاركة مدنيين، فرصة لإيجاد مخرج أمني أو سياسي للبنان تحت عنوان «خروج إسرائيل من البلد ووقف اعتداءاتها عليه»، فيما يذهب آخرون أبعد من ذلك، متحدّثين عن انفتاح باب إرساء هدنة طويلة، وربما الانضمام لاحقاً إلى ركب التطبيع. ورغم أن هذا الطرح الأخير لم يتحوّل بعد إلى مبادرة علنية، إلا أن أجواء ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، والوقائع الأمنية التي أفرزتها، وتشكّل سلطة جديدة في بيروت، وسقوط النظام السوري السابق كعنصر إقليمي مؤثّر إلى حدّ بعيد، كلها عوامل تشكّل – بالنسبة إلى هؤلاء - بيئة خصبة لتكرار تجربة شبيهة باتفاق 17 أيار 1983 الذي أعقب اجتياح لبنان، والذي رُوِّج له حينها بصفته «حلاً مرحلياً» يُنهي الاحتلال، ويؤسّس لمرحلة من «السلام المؤجَّل».
في المقابل، تُدرك إسرائيل أن العقبة الفعلية أمام أي مسار تفاوضي أو سياسي، ليست في السلطة السياسية اللبنانية أو توزّع الأحزاب والقوى ومواقفها، بل ببساطة، في وجود المقاومة وسلاحها، وحضورها ضمن بيئتها الحاضنة بشكل خاص، وامتدادها إلى بيئات وطنية أخرى. ورغم ما أفرزته الحرب من وقائع، وما تخلّلها من ضربات وخسائر ثقيلة، وعلى الرغم كذلك من الضغوط المتزايدة ومحاولات الحصار السياسي والإعلامي والاقتصادي، لا تزال المقاومة تُعَدّ العنصر الأشدّ تماسُكاً في معادلة الردع، فيما ميزان الردع الذي استطاعت فرضه، يبقى حاضراً، وإن كان خاضعاً لاختبارات شديدة ومتواصلة.
وفي مواجهة تلك الوقائع، تحرص إسرائيل على الدفع بالمسار التفاوضي – سواء كان مباشراً أو غير مباشر –، مستخدمةً في ذلك وسائل متعدّدة، من التصعيد العسكري والأمني إلى الضغط السياسي والاقتصادي وحتى الإعلامي، إذ يستخدم العدو الضربات التي ينفّذها في لبنان، أداة ضغط على القرار اللبناني الرسمي أولاً، ثم على قرار المقاومة، ووسيلة لتحريك التوازنات بما يتيح له تحصيل مكاسب سياسية وأمنية أكبر، خصوصاً أن الكلفة العسكرية بالنسبة إليه، ما زالت محصورة ضمن حدود يمكن السيطرة عليها.
وفي الخلفية، فإن أصل التفاوض مع لبنان، بالنسبة إلى إسرائيل، يُعتبر مكسباً استراتيجياً في ذاته، سواء أفضى إلى تسوية سريعة أو كاملة أم لا، إذ يكفي إسرائيلياً، في المدى المنظور، كسر الموقف اللبناني التاريخي المتصلّب، منذ ما بعد إسقاط اتفاقية 17 أيار، وفتح نافذة اتصال مع بيروت – ولو عبر وسطاء –، حتى يُسجَّل ذلك كتحوّل جوهري في موقع لبنان من معادلة الصراع التاريخي. كما تؤمن إسرائيل بإمكانية تغيير الثقافة السياسية والشعبية في لبنان، بسرعة هائلة، في ظلّ وجود فريق متعاون مع الاحتلال وخاضع للإملاءات الأميركية. وتتّسق هذه الرؤية تماماً مع التوجّه الأميركي الأوسع، القائم على ضرورة كسر أعداء إسرائيل في المنطقة، وعزل إيران، وجرّ الدول العربية والإسلامية إلى اتفاقيات التطبيع المختلفة، والإبراهيمية بشكل خاص.
17 أيار 1983 أم هدنة 1949؟
لم تكن اتفاقية 17 أيار «اتفاق جلاء»، وفق ما جرى تصويرها به في حينها، بل كانت عملياً اتفاقية استسلام شبه كامل، وفق ما يدلّ عليه بوضوح نصّها وذيلها وملحقها، إذ تضمّنت إلغاء حالة العداء مع إسرائيل، وإنهاء اتفاقية الهدنة، وإرساء ترتيبات أمنية تشمل منطقة عازلة، يخضع تواجد الجيش اللبناني والقوات المسلّحة فيها لترتيبات ومعايير صارمة تحدّ من قدراتهما إلى حدّ بعيد. كما أنشأ الاتفاق «لجنة اتصال مشتركة»، تكون الولايات المتحدة فيها مشاركاً، ويُعهد إليها الإشراف على تنفيذ الاتفاق في جميع جوانبه. وهي نصّت أيضاً على فتح الحدود بين لبنان والأراضي المحتلة، لتنقّل الأفراد والبضائع بشكل طبيعي. وفوق كل ذلك، لم تنص الاتفاقية على انسحاب قوات الاحتلال فوراً من لبنان، بل في خلال مهلة تُراوِح بين ثمانية أسابيع واثني عشر أسبوعاً. وحتى هذا البند لم يتحقّق أبداً، وماطلت إسرائيل فيه أشدَّ مماطلة، وهو ما ساهم في إسقاط الاتفاقية لاحقاً، من دون أن يتحقّق الانسحاب الكامل إلا في عام 2000، بفعل المقاومة المسلّحة. وفي خصوص الوفد التفاوضي، فقد كان السفير (المتقاعد) أنطوان فتال رئيساً للوفد اللبناني خلال مفاوضات أيار 1983، وهو صاحب كتابات بالفرنسية في ذمّ الحضارة الإسلاميّة، ومواقف صريحة تنفي معاداة لبنان لإسرائيل رغم أن الأخيرة كانت لا تزال تحتلّ كامل جنوب البلاد. واليوم، يقود التفاوضَ أيضاً، للمفارقة، المندوبُ المدني في لجنة «الميكانيزم»، سفير لبنان السابق لدى الولايات المتحدة، سيمون كرم، المعروف بمواقفه – القديمة الجديدة - اليمينية والمعادية للمقاومة اللبنانية.
وبالنسبة إلى أهداف التفاوض الجاري حالياً، فيمكن فهمها، بسهولة بالغة، من خلال المواقف الصريحة والواضحة للمسؤولين الإسرائيليين والأميركيين، وبعض المنسجمين معهم في لبنان، الذين لا يتحدّثون عن «اتفاق جلاء»، بل عن خطوات على طريق التطبيع والسلام الكامل. فعقب الجلسة الأولى في الناقورة بحضور المندوب المدني، خرج مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ليتحدّث عن فرص «تعاون اقتصادي» بين لبنان وإسرائيل، مفرّقاً بين هذا المسار، والمسار الأمني المستمرّ بفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة بشكل شبه يومي. على أن الحديث عن «منطقة اقتصادية» ضمن الأراضي اللبنانية الحدودية، ليس سوى تغليف ساذج ومفضوح لـ»المنطقة الأمنية العازلة» التي تطلبها إسرائيل، وتدعمها فيها الولايات المتحدة.
أمّا على مستوى اللجان المشتركة، فتتمثّل اليوم في «الميكانيزم» كلّ من فرنسا والقوات الدولية، في حين يجري العمل على تنحيتهما – إخراج ممثل القوات الدولية برحيل هذه الأخيرة نهاية العام المقبل، وتهميش الدور الفرنسي إن لم يكن ممكناً إبطاله تماماً -، والإبقاء على المندوب الأميركي فقط، إلى جانب ممثّلي العدو ولبنان، كما كان الحال في لجنة الاتصال المشتركة في اتفاقية 17 أيار.
وبين ما كان في عام 1983، وما يمكن أن ينجم عن المفاوضات الجارية، يبرز اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949 بين لبنان والعدو، والذي يدعو أنصاره في لبنان إلى جعله مرجعاً لأي اتفاق مُحتمل. ويرى هؤلاء، ومن بينهم الرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، أن هذا الاتفاق لا يعني تطبيعاً أو سلاماً، وبالتأكيد ليس استسلاماً، بل هو يقف فقط عند الحدود العسكرية والأمنية، ويحقّق زوال الاحتلال ووقف الاعتداءات، إذ إن «أحكامه مبنيّة على الاعتبارات العسكرية وحدها»، كما ورد في نصّه؛ ورغم أنه يحدّد ما سُمّي بـ»خط الهدنة»، ويضع قيوداً على التواجد العسكري ضمنه، إلا أنه يفرض قيوداً على لبنان (ضمن أراضيه) وعلى إسرائيل (ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة) على حدّ سواء، وليس فقط على لبنان كما في اتفاقية أيار 1983، وهو لا يتضمّن أيضاً منطقة أمنية عازلة أو ممنوعة، وفق المطروح حالياً.
مع ذلك، ينبئ المسار الحالي للمفاوضات بين لبنان والعدو، بأن الأمور تتجه بخطىً سريعة نحو اتفاق يشبه اتفاقية 17 أيار المذمومة، وتبتعد بخطوات مماثلة عن اتفاقية الهدنة. على أن كل محطات التاريخ تثبت أن ما نتج من جولات التفاوض السابقة من اتفاقيات – على هوانها – لم يلتزم به العدو الإسرائيلي يوماً، وهو على الأرجح ما سيكون مصير أيّ اتفاق مستقبلي محتمل. ومن شأن ذلك أن يمنح أنصار المقاومة في لبنان، جرعة أمل في زمن يراد فيه انطفاء الأمل، وأدلة متجدّدة على أن إسرائيل لا تنفع معها سوى المقاومة، ومزيد من المقاومة، وإن طال الزمان!
ثلاثة عقود من بيع الوهم: لماذا ظلّ التطبيع الاقتصادي بارداً؟
رمضان الحكيم
في علاقات التعاون بين دول الإقليم وكياناته، عادة ما يتركّز الاهتمام على ثلاثة قطاعات رئيسية هي: المبادلات التجارية، الاستثمارات المشتركة، وحركة الأفراد والبضائع. لكن في حالة التطبيع الاقتصادي الإسرائيلي مع المحيط العربي، فإن أولوية تل أبيب كانت تتجاوز تلك القطاعات الثلاثة، لتشمل هدم جدار المقاطعة العربية، التي كبّدت الاقتصاد الإسرائيلي طوال العقود السابقة لاتفاقيتَي «وادي عربة» و«أوسلو» خسائر كبيرة. إذ تمثّلت المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى إسرائيل في «الفيتو» الذي كان يلاحق الشركات الغربية التي تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر معها، والذي جعل الكثير من تلك الشركات تتحاشى بناء أيّ علاقة مع جهات إسرائيلية انطلاقاً من حرصها على عدم خسارة سوق استهلاكي كان يصل تعداده آنذاك إلى نحو 250 مليوناً، من أجل سوق صغير لا يتجاوز عدد مستهلكيه 3 إلى 4 ملايين نسمة. لكن هذا «الفيتو» سقط تدريجياً منذ ثلاثة عقود من الزمن، وأصبح من الماضي في مسيرة الصراع العربي - الإسرائيلي.
زمنياً وسياسياً، يمكن تقسيم مسيرة التطبيع الاقتصادي العربي مع إسرائيل إلى مرحلتَين أساسيتَين: الأولى تشمل ما قبل اتفاقيات «السلام الإبراهيمي»، وهي تنقسم إلى فترتيَن: فترة اتفاقية «كامب ديفيد» في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وفترة «أوسلو» و«وادي عربة» في بداية عقد التسعينيات. أما المرحلة الثانية، فهي التي انطلقت مع موجة التطبيع «الإبراهيمي».
تطبيع بارد جداً
في مرحلة التطبيع الأولى التي تجاوز عمرها نحو 15 عاماً، فشل الإسرائيليون في تحقيق أي اختراقات اقتصادية مهمة مع المجتمع المصري، الذي يعود إليه الفضل الأول في انحصار الأمور في ما عُرف لاحقاً بـ«السلام البارد». إذ رغم توقيع أول اتفاق تجاري بين القاهرة وتل أبيب، إلا أن قيمة المبادلات التجارية ظلّت هامشية جداً مقارنة بالشركاء التجاريين للطرفين، إلى درجة أن البيانات التي ترصد قيم التبادل خلال عقد الثمانينيات محدودة. ويُعزى الجمود التجاري، في المقام الأول، إلى الموقف الشعبي الرافض للتطبيع السياسي والاقتصادي بجميع أشكاله، وكذلك إلى تريث النظام السياسي آنذاك خوفاً من تصاعد المقاطعة العربية لمصر، وتأثيرها في بيئة الأعمال والروابط المصرية التجارية مع دول الإقليم، العربية منها والإسلامية. وهذا ما جعل من فرصة حضور المنتجات الإسرائيلية في الأسواق المصرية شبه معدومة. أما لجهة تصدير المنتجات المصرية إلى الكيان، فإن جميع الشركات التجارية والصناعية لم تكن مستعدة للدخول في مواجهة «خاسرة» مع المستهلكين المصريين والعرب. وحتى بالنسبة إلى زيارات الوفود التجارية، فإن وجود ختم لدائرة الجوازات الإسرائيلية على جواز سفر رجل أعمال مصري، لم يكن أمراً منبوذاً مصرياً فحسب، وإنما بمنزلة «وصمة عار» تجعل حاملها غير مرحَّب فيه في كثير من دول الإقليم والعالم.
ومع أن توقيع اتفاقيّتَي «أوسلو» و«وداي عربة» عامي 1993 و1994 على التوالي، عزّز من فرص التطبيع الاقتصادي بحكم انضمام دولة مواجهة ثانية (الأردن) إلى مسار «السلام»، واعتراف «منظمة التحرير الفلسطينية» بإسرائيل، إلا أن هذه الآمال لم تَدُم سوى لمدة قصيرة لم تتجاوز العامين (1994-1996)، وذلك جراء تشكيل بنيامين نتنياهو حكومته الأولى، التي تبنّت خطاباً متشدداً حيال عملية السلام. في تلك المدة القصيرة المشار إليها، شهد التطبيع الاقتصادي انفتاحاً رسمياً، فكان أن فتح الأردن الحدود التجارية مباشرة بعد وادي عربة، وتوسّعت التجارة الزراعية والصناعية، وافتُتحت مناطق صناعية مشتركة، ثم لاحقاً تمّ تأسيس المناطق الصناعية المؤهّلة (الكويز 1996) التي سمحت بدخول منتجات أردنية ومصرية تحتوي نسباً من المكوّن الإسرائيلي إلى السوق الأميركية من دون جمارك. ومن جهتها، وقّعت السلطة الفلسطينية «اتفاق باريس الاقتصادي» الذي نظّم حركة السلع، الجمارك، المعابر، العمالة... إلخ؛ كما أنشأت عدة دول عربية (قطر، عُمان، المغرب، تونس، موريتانيا) مكاتب تجارية أو مكاتب ارتباط مع إسرائيل، بينما زادت تركيا من تعاونها التجاري والعسكري مع تل أبيب. ولم يتوقّف الأمر عند التعاون الثنائي، بل امتدّ إلى وضع خطط هدفها ربط إسرائيل بمشروعات إقليمية.
إلا أنه مع مطلع الألفية الحالية، جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتقضي على أي محاولات لتوسيع دائرة التطبيع الاقتصادي، والذي بقي طوال العقد الأول في أدنى حدوده، محافظاً على بعض المبادلات التجارية مع استمرار مقاطعة القطاع الخاص العربي. في ذلك العقد، أبقت ثلاث دول في الإقليم على علاقات اقتصادية رسمية متباينة المستوى والحجم مع إسرائيل، هي: مصر، الأردن، وتركيا. ومع اكتشافات الغاز في شرق المتوسط بعد 2011، بدأت قنوات اقتصادية جديدة تتشكّل؛ فقد وقّع الأردن اتفاق الغاز مع إسرائيل عام 2016، بينما وقّعت مصر اتفاقات متعدّدة بين عامي 2018 و2019 لإعادة تسييل الغاز الإسرائيلي في منشآت الغاز المصرية وإعادة تصديره. كما عاد طرح مشروع «قناة البحرين» لربط البحر الأحمر بالبحر الميت، بمشاركة الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية.
«انفراجة» بلا قبول شعبي
في المرحلة الثانية، التي أعقبت توقيع أربع دول عربية لاتفاقيات سلام مع تل أبيب عام 2020، تمكنت واشنطن من إرساء شبكة تعاون اقتصادي جديدة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، شملت عدة مجالات أبرزها: التجارة والاستثمار، الشراكات الدفاعية والأمنية، مشاريع الطاقة والبنى التحتية، السياحة والتبادل الثقافي، الزراعة والأمن الغذائي، وغيرها. وبحسب ما تشير إليه بيانات التجارة الدولية لعام 2023، فإن قيمة صادرات الإمارات إلى إسرائيل بلغت نحو 977 مليون دولار أميركي، في حين أن قيمة مستورداتها كانت بحدود 654 مليون دولار. أما مصر، فقد صدّرت ما قيمته 338 مليون دولار، واستوردت من إسرائيل بنحو 2.25 مليار دولار. للوهلة الأولى، تعطي هذه القيم التجارية انطباعاً بأن التطبيع التجاري بات في أحسن أحواله، لكن مع التعرّف إلى تركيبة السلع والمنتجات المدرجة على لائحة المبادلات التجارية، سوف نجد أنها ليست من ضمن الأولويات التي يمكن معها القول إن التطبيع تسلّل إلى الشارع العربي؛ فمثلاً، قيمة صادرات الألماس ومستورداته بين الإمارات وإسرائيل وصلت إلى نحو 717 مليون دولار، وهذا أيضاً يمكن إسقاطه بشكل أو بآخر على صادرات الغاز إلى مصر، التي بلغت قيمتها نحو 2.13 مليار دولار. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حركة السياح، التي لا تزال تجري بعيداً من إطارها الشعبي؛ إذ إن السياح الإسرائيليين مثلاً لا يقصدون سوى مناطق محدّدة في مصر لقناعتهم بأنهم غير مرغوبين (شرم الشيخ مثلاً).
تطبيع لمهمات بريدية فقط
رغم كلّ موجات الانفتاح، وخاصة تلك التي حصلت بعد اتفاقيات «السلام الإبراهيمي»، إلا أن التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل لا يزال يصطدم بعقبتَين أساسيتَين: الموقف الشعبي العربي، الذي ازداد تمسكاً برفض التطبيع بعد حرب غزة وما رافقها من جرائم وتدمير واسع النطاق، إضافة إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وسوريا وغيرها؛ وفشل اتفاقيات السلام في توفير الأمن للدول العربية الموقّعة عليها، بل وتحوّلها في كثير من الأحيان إلى مجرد قنوات اتصال أو «مهمات بريدية» لإدارة الأزمات بين واشنطن وتل أبيب والإقليم المتوتر. وبذلك فإن التطبيع الاقتصادي بقي رسمياً أكثر منه بكثير شعبياً، ودون مستوى الأهداف التي وضعتها إسرائيل والولايات المتحدة، وحتى دون مستوى ما رُوّج له إعلامياً من «شرق أوسط جديد» أو «تحالف اقتصادي عابر للحدود».
رمضان الحكيم
في علاقات التعاون بين دول الإقليم وكياناته، عادة ما يتركّز الاهتمام على ثلاثة قطاعات رئيسية هي: المبادلات التجارية، الاستثمارات المشتركة، وحركة الأفراد والبضائع. لكن في حالة التطبيع الاقتصادي الإسرائيلي مع المحيط العربي، فإن أولوية تل أبيب كانت تتجاوز تلك القطاعات الثلاثة، لتشمل هدم جدار المقاطعة العربية، التي كبّدت الاقتصاد الإسرائيلي طوال العقود السابقة لاتفاقيتَي «وادي عربة» و«أوسلو» خسائر كبيرة. إذ تمثّلت المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى إسرائيل في «الفيتو» الذي كان يلاحق الشركات الغربية التي تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر معها، والذي جعل الكثير من تلك الشركات تتحاشى بناء أيّ علاقة مع جهات إسرائيلية انطلاقاً من حرصها على عدم خسارة سوق استهلاكي كان يصل تعداده آنذاك إلى نحو 250 مليوناً، من أجل سوق صغير لا يتجاوز عدد مستهلكيه 3 إلى 4 ملايين نسمة. لكن هذا «الفيتو» سقط تدريجياً منذ ثلاثة عقود من الزمن، وأصبح من الماضي في مسيرة الصراع العربي - الإسرائيلي.
زمنياً وسياسياً، يمكن تقسيم مسيرة التطبيع الاقتصادي العربي مع إسرائيل إلى مرحلتَين أساسيتَين: الأولى تشمل ما قبل اتفاقيات «السلام الإبراهيمي»، وهي تنقسم إلى فترتيَن: فترة اتفاقية «كامب ديفيد» في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وفترة «أوسلو» و«وادي عربة» في بداية عقد التسعينيات. أما المرحلة الثانية، فهي التي انطلقت مع موجة التطبيع «الإبراهيمي».
تطبيع بارد جداً
في مرحلة التطبيع الأولى التي تجاوز عمرها نحو 15 عاماً، فشل الإسرائيليون في تحقيق أي اختراقات اقتصادية مهمة مع المجتمع المصري، الذي يعود إليه الفضل الأول في انحصار الأمور في ما عُرف لاحقاً بـ«السلام البارد». إذ رغم توقيع أول اتفاق تجاري بين القاهرة وتل أبيب، إلا أن قيمة المبادلات التجارية ظلّت هامشية جداً مقارنة بالشركاء التجاريين للطرفين، إلى درجة أن البيانات التي ترصد قيم التبادل خلال عقد الثمانينيات محدودة. ويُعزى الجمود التجاري، في المقام الأول، إلى الموقف الشعبي الرافض للتطبيع السياسي والاقتصادي بجميع أشكاله، وكذلك إلى تريث النظام السياسي آنذاك خوفاً من تصاعد المقاطعة العربية لمصر، وتأثيرها في بيئة الأعمال والروابط المصرية التجارية مع دول الإقليم، العربية منها والإسلامية. وهذا ما جعل من فرصة حضور المنتجات الإسرائيلية في الأسواق المصرية شبه معدومة. أما لجهة تصدير المنتجات المصرية إلى الكيان، فإن جميع الشركات التجارية والصناعية لم تكن مستعدة للدخول في مواجهة «خاسرة» مع المستهلكين المصريين والعرب. وحتى بالنسبة إلى زيارات الوفود التجارية، فإن وجود ختم لدائرة الجوازات الإسرائيلية على جواز سفر رجل أعمال مصري، لم يكن أمراً منبوذاً مصرياً فحسب، وإنما بمنزلة «وصمة عار» تجعل حاملها غير مرحَّب فيه في كثير من دول الإقليم والعالم.
ومع أن توقيع اتفاقيّتَي «أوسلو» و«وداي عربة» عامي 1993 و1994 على التوالي، عزّز من فرص التطبيع الاقتصادي بحكم انضمام دولة مواجهة ثانية (الأردن) إلى مسار «السلام»، واعتراف «منظمة التحرير الفلسطينية» بإسرائيل، إلا أن هذه الآمال لم تَدُم سوى لمدة قصيرة لم تتجاوز العامين (1994-1996)، وذلك جراء تشكيل بنيامين نتنياهو حكومته الأولى، التي تبنّت خطاباً متشدداً حيال عملية السلام. في تلك المدة القصيرة المشار إليها، شهد التطبيع الاقتصادي انفتاحاً رسمياً، فكان أن فتح الأردن الحدود التجارية مباشرة بعد وادي عربة، وتوسّعت التجارة الزراعية والصناعية، وافتُتحت مناطق صناعية مشتركة، ثم لاحقاً تمّ تأسيس المناطق الصناعية المؤهّلة (الكويز 1996) التي سمحت بدخول منتجات أردنية ومصرية تحتوي نسباً من المكوّن الإسرائيلي إلى السوق الأميركية من دون جمارك. ومن جهتها، وقّعت السلطة الفلسطينية «اتفاق باريس الاقتصادي» الذي نظّم حركة السلع، الجمارك، المعابر، العمالة... إلخ؛ كما أنشأت عدة دول عربية (قطر، عُمان، المغرب، تونس، موريتانيا) مكاتب تجارية أو مكاتب ارتباط مع إسرائيل، بينما زادت تركيا من تعاونها التجاري والعسكري مع تل أبيب. ولم يتوقّف الأمر عند التعاون الثنائي، بل امتدّ إلى وضع خطط هدفها ربط إسرائيل بمشروعات إقليمية.
إلا أنه مع مطلع الألفية الحالية، جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية لتقضي على أي محاولات لتوسيع دائرة التطبيع الاقتصادي، والذي بقي طوال العقد الأول في أدنى حدوده، محافظاً على بعض المبادلات التجارية مع استمرار مقاطعة القطاع الخاص العربي. في ذلك العقد، أبقت ثلاث دول في الإقليم على علاقات اقتصادية رسمية متباينة المستوى والحجم مع إسرائيل، هي: مصر، الأردن، وتركيا. ومع اكتشافات الغاز في شرق المتوسط بعد 2011، بدأت قنوات اقتصادية جديدة تتشكّل؛ فقد وقّع الأردن اتفاق الغاز مع إسرائيل عام 2016، بينما وقّعت مصر اتفاقات متعدّدة بين عامي 2018 و2019 لإعادة تسييل الغاز الإسرائيلي في منشآت الغاز المصرية وإعادة تصديره. كما عاد طرح مشروع «قناة البحرين» لربط البحر الأحمر بالبحر الميت، بمشاركة الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية.
«انفراجة» بلا قبول شعبي
في المرحلة الثانية، التي أعقبت توقيع أربع دول عربية لاتفاقيات سلام مع تل أبيب عام 2020، تمكنت واشنطن من إرساء شبكة تعاون اقتصادي جديدة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، شملت عدة مجالات أبرزها: التجارة والاستثمار، الشراكات الدفاعية والأمنية، مشاريع الطاقة والبنى التحتية، السياحة والتبادل الثقافي، الزراعة والأمن الغذائي، وغيرها. وبحسب ما تشير إليه بيانات التجارة الدولية لعام 2023، فإن قيمة صادرات الإمارات إلى إسرائيل بلغت نحو 977 مليون دولار أميركي، في حين أن قيمة مستورداتها كانت بحدود 654 مليون دولار. أما مصر، فقد صدّرت ما قيمته 338 مليون دولار، واستوردت من إسرائيل بنحو 2.25 مليار دولار. للوهلة الأولى، تعطي هذه القيم التجارية انطباعاً بأن التطبيع التجاري بات في أحسن أحواله، لكن مع التعرّف إلى تركيبة السلع والمنتجات المدرجة على لائحة المبادلات التجارية، سوف نجد أنها ليست من ضمن الأولويات التي يمكن معها القول إن التطبيع تسلّل إلى الشارع العربي؛ فمثلاً، قيمة صادرات الألماس ومستورداته بين الإمارات وإسرائيل وصلت إلى نحو 717 مليون دولار، وهذا أيضاً يمكن إسقاطه بشكل أو بآخر على صادرات الغاز إلى مصر، التي بلغت قيمتها نحو 2.13 مليار دولار. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حركة السياح، التي لا تزال تجري بعيداً من إطارها الشعبي؛ إذ إن السياح الإسرائيليين مثلاً لا يقصدون سوى مناطق محدّدة في مصر لقناعتهم بأنهم غير مرغوبين (شرم الشيخ مثلاً).
تطبيع لمهمات بريدية فقط
رغم كلّ موجات الانفتاح، وخاصة تلك التي حصلت بعد اتفاقيات «السلام الإبراهيمي»، إلا أن التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل لا يزال يصطدم بعقبتَين أساسيتَين: الموقف الشعبي العربي، الذي ازداد تمسكاً برفض التطبيع بعد حرب غزة وما رافقها من جرائم وتدمير واسع النطاق، إضافة إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان وسوريا وغيرها؛ وفشل اتفاقيات السلام في توفير الأمن للدول العربية الموقّعة عليها، بل وتحوّلها في كثير من الأحيان إلى مجرد قنوات اتصال أو «مهمات بريدية» لإدارة الأزمات بين واشنطن وتل أبيب والإقليم المتوتر. وبذلك فإن التطبيع الاقتصادي بقي رسمياً أكثر منه بكثير شعبياً، ودون مستوى الأهداف التي وضعتها إسرائيل والولايات المتحدة، وحتى دون مستوى ما رُوّج له إعلامياً من «شرق أوسط جديد» أو «تحالف اقتصادي عابر للحدود».
رفض إسرائيلي متنامٍ لـ«التنازلات»: فلْيدفع العرب ثمن التطبيع
يحيى دبوق
لا يحمل مصطلح التطبيع في إسرائيل، المعنى نفسه الذي يحيل إليه في العالم العربي، بل يخضع لتفسيرات مغايرة تتعلّق بتداعياته وشروط قبوله أو رفضه ومقاصده. كما إن الموقف منه ليس أحادي الاتجاه، بل يتحرّك بين حدّين: رافض ومؤيد، وإن بات، بعد تطورات العامين الماضيين، يميل بشكل ملحوظ نحو الضفة اليمينية المتطرّفة، التي لا تكتفي برفض أيّ تنازلات مقابل «السلام»، بل تعدّ الأخير نوعاً من «الترف السياسي»، لا يستحقّ أن تنشغل به إسرائيل، في ظلّ أولوياتها الأمنية وضرورات استكمال مشروعها التوسّعي. في السنوات التي أعقبت توقيع «اتفاقات أبراهام» عام 2020، بدا أن التطبيع مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، يحتلّ مكانة مركزية في الرؤية الأمنية والسياسية لإسرائيل. لكن بعد مرور أكثر من عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بات من الواضح أن مكانة التطبيع داخل الوعي الجمعي وعلى مستوى المؤسسة السياسية الإسرائيلية تراجعت، حيث لم يعد يُنظر إليه كأولوية. مع ذلك، يتجاذب الداخلَ الإسرائيلي موقفان: الأول يذهب إلى أن التطبيع ليس مجرّد اتفاقات ديبلوماسية، بل أداة أمنية واقتصادية حيوية تؤدي إلى علاقات مدنية واسعة في السياحة والتعليم والثقافة والتجارة، من شأنها تثبيت «السلام»، ودمج إسرائيل مع المحيط، عبر خلق مصالح مشتركة مستدامة. وبحسب هذه الرؤية «الاستراتيجية»، فإن الاقتصار على العلاقات مع الأنظمة من دون سحبها على الجمهور يجعل الاتفاقات هشّة، ومرهونة بتفاهمات بين «النخب»، ومعرَّضة للانهيار عند أول أزمة. أما الرؤية الثانية، فأقلّ طموحاً، لكنها أكثر تماشياً مع الواقع وفق ما يصفها به المنظّرون لها؛ فهي تقوم على أن التطبيع الكامل ليس ضرورياً، بل يكفي أن تبقى القنوات الأمنية والاقتصادية الحيوية نشطة، كما أنها تعدّ نموذج «السلام البارد»، القائم مع مصر والأردن، مناسباً لتطبيقه على دول عربية أخرى، كونه يمنع الحرب ويؤمّن التنسيق الاستراتيجي، من دون أن يثير معارضة داخلية وازنة لدى الأنظمة العربية، أو يدفع بإسرائيل إلى «سخونة العلاقات»، التي قد تجبرها على تقديم تنازلات غير مرغوبة، خصوصاً في الملف الفلسطيني.
وإذا كان هذان الموقفان هما السائدان تقليدياً، مع تفاوت في نسبة تأييد كلّ منهما تبعاً لهويّات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بين يمين ووسط - لا يسار حقيقياً في إسرائيل -، فإن السياسة الإسرائيلية السائدة حالياً، في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو، تميل بوضوح إلى الرؤية الثانية، أو ما هو أكثر تطرّفاً منها حتى. فرغم الخطاب العلني المؤيّد للتطبيع، فإن الممارسات على الأرض تُظهر إيلاء أولوية واضحة للمصالح الأمنية المباشرة، ورفضاً لأي مساومة على «أرض إسرائيل الكاملة». وهو رفضٌ يظلّ واحداً، سواء انطلق من اعتقاد توراتي يتبنّاه جزء من الائتلاف الحاكم، أو من موقف يميني تتّخذه أحزاب غير دينية، وفي مقدّمتها «الليكود»، الذي يفضّل علاقات لذاتها مع الأنظمة العربية من دون أيّ ربط بالقضية الفلسطينية أو تنازلات أمنية أو سياسية أو جغرافية.
مع اندلاع الحرب على غزة، دخلت العلاقات مع الدول المطبّعة، وخصوصاً تلك التي انضمّت حديثاً إلى ركب التطبيع عبر «اتفاقات أبراهام»، مرحلة «ازدواجية» واضحة؛ إذ تراجعت العلاقات «المدنية» بشكل كبير، وعُلّقت مبادرات اقتصادية وثقافية وزيارات متبادلة، وانحسر الخطاب المؤيّد للتطبيع، وذلك تحت تأثير حرب الإبادة التي أثارت غضباً في الشارع العربي، دفَع الحكومات إلى تفضيل «تبريد العلاقات» من دون قطع الجسور مع إسرائيل. لكن المفارقة أن هذا التبريد العلني لم ينسحب على المجال الأمني، حيث استمرّ التنسيق واتّسع، خصوصاً في مواجهة ما يوصف بـ«التهديدات المشتركة»، كإيران وأعداء إسرائيل في المنطقة. وعلى هذه الخلفية، تحوّل التطبيع إلى علاقة من طبقتين: طبقة أمنية فعّالة تعمل بصمت، وطبقة علنية توحي بالتجميد، وهو ما أدّى، عملياً، إلى تعزُّز التفسير اليميني للتطبيع، والذي يتماشى مع أجندات مكوّنات الحكومة الحالية.
قبل الحرب، راهنت إسرائيل على أن «اتفاقات أبراهام» مع دول الخليج والمغرب والسودان، ستحقّق تطبيعاً معزولاً عن القضية الفلسطينية، وأن «الفيتو الفلسطيني» انتهى إلى غير رجعة، لا بل بدا أن السعودية نفسها أقرب إلى تطبيع غير مشروط بأفق سياسي للفلسطينيين. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023، لم يعد هذا الرهان ممكناً، ما لم تُقدِم إسرائيل على مبادرات تجاه الفلسطينيين، وهو ما ترفضه تل أبيب تماماً إلى الآن. وإذا كان إصرار إسرائيل على فصل المسارَين، بقاء العلاقات مع الأنظمة دون الشعوب، فإن هذا الاتجاه لا يلقى معارضة حقيقية داخل الكيان، بل قد يكون مطلباً. كما أن بقاء السعودية خارج دائرة التطبيع الرسمي، مع الاقتصار على علاقات أمنية وسياسية بها في الغرف المغلقة، لا يعدّ خسارة من وجهة النظر الإسرائيلية الحالية، طالما أن الثمن المطلوب لتجاوز ذلك هو تنازل في الملف الفلسطيني.
في المحصلة، هل ما يزال التطبيع أولوية في إسرائيل؟ المؤسسة الأمنية، بما فيها الجيش وأجهزة الاستخبارات، ترى في التطبيع عنصراً حاسماً لـ«الاستقرار الإقليمي»، الأمر الذي يستوجب الدفع في اتّجاه تعزيزه، خصوصاً إذا أسهم في تعميق التعاون الأمني والاستخباراتي مع الأنظمة العربية. أما المؤسّسة السياسية، وتحديداً الحكومة الحالية، فلا تضعه على رأس أولوياتها، بل إن بعض مكوّناتها تدعو إلى حذفه من الأجندة تماماً، خصوصاً إذا ما تعارض مع مشاريع داخلية توسّعية تتعلّق بـ«أرض إسرائيل الكبرى»، وترفض أن يتجاوز ثمنه مجرّد وعود سياسية قابلة للتراجع عنها لاحقاً، لا بل تدعو الدول العربية إلى دفع ثمنه إذا ما أرادته.
ما يمكن ترجيحه حالياً هو مواصلة المسار الحالي: رفض التطبيع بمعناه الواسع، والاقتصار على الجوانب الأمنية والاستخباراتية، مع الحفاظ على جسور العلاقات السياسية بالأنظمة. وفي حال غيّرت الأخيرة مقاربتها في خصوص فلسطين، فقد ترى إسرائيل في التطبيع العلني الكامل، محلاً لإعادة النظر والدراسة، مع استمرار الإصرار على فصله عن القضية الفلسطينية. وإذا كان التطبيع في السابق هو بوابة للاعتراف الإقليمي بالدولة العبرية، فإنه الآن لم يعُد هدفاً استراتيجياً، بل أداة تكتيكية قابلة للاستخدام أو التجميد، بحسب الحاجة والظرف.
يحيى دبوق
لا يحمل مصطلح التطبيع في إسرائيل، المعنى نفسه الذي يحيل إليه في العالم العربي، بل يخضع لتفسيرات مغايرة تتعلّق بتداعياته وشروط قبوله أو رفضه ومقاصده. كما إن الموقف منه ليس أحادي الاتجاه، بل يتحرّك بين حدّين: رافض ومؤيد، وإن بات، بعد تطورات العامين الماضيين، يميل بشكل ملحوظ نحو الضفة اليمينية المتطرّفة، التي لا تكتفي برفض أيّ تنازلات مقابل «السلام»، بل تعدّ الأخير نوعاً من «الترف السياسي»، لا يستحقّ أن تنشغل به إسرائيل، في ظلّ أولوياتها الأمنية وضرورات استكمال مشروعها التوسّعي. في السنوات التي أعقبت توقيع «اتفاقات أبراهام» عام 2020، بدا أن التطبيع مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، يحتلّ مكانة مركزية في الرؤية الأمنية والسياسية لإسرائيل. لكن بعد مرور أكثر من عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بات من الواضح أن مكانة التطبيع داخل الوعي الجمعي وعلى مستوى المؤسسة السياسية الإسرائيلية تراجعت، حيث لم يعد يُنظر إليه كأولوية. مع ذلك، يتجاذب الداخلَ الإسرائيلي موقفان: الأول يذهب إلى أن التطبيع ليس مجرّد اتفاقات ديبلوماسية، بل أداة أمنية واقتصادية حيوية تؤدي إلى علاقات مدنية واسعة في السياحة والتعليم والثقافة والتجارة، من شأنها تثبيت «السلام»، ودمج إسرائيل مع المحيط، عبر خلق مصالح مشتركة مستدامة. وبحسب هذه الرؤية «الاستراتيجية»، فإن الاقتصار على العلاقات مع الأنظمة من دون سحبها على الجمهور يجعل الاتفاقات هشّة، ومرهونة بتفاهمات بين «النخب»، ومعرَّضة للانهيار عند أول أزمة. أما الرؤية الثانية، فأقلّ طموحاً، لكنها أكثر تماشياً مع الواقع وفق ما يصفها به المنظّرون لها؛ فهي تقوم على أن التطبيع الكامل ليس ضرورياً، بل يكفي أن تبقى القنوات الأمنية والاقتصادية الحيوية نشطة، كما أنها تعدّ نموذج «السلام البارد»، القائم مع مصر والأردن، مناسباً لتطبيقه على دول عربية أخرى، كونه يمنع الحرب ويؤمّن التنسيق الاستراتيجي، من دون أن يثير معارضة داخلية وازنة لدى الأنظمة العربية، أو يدفع بإسرائيل إلى «سخونة العلاقات»، التي قد تجبرها على تقديم تنازلات غير مرغوبة، خصوصاً في الملف الفلسطيني.
وإذا كان هذان الموقفان هما السائدان تقليدياً، مع تفاوت في نسبة تأييد كلّ منهما تبعاً لهويّات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بين يمين ووسط - لا يسار حقيقياً في إسرائيل -، فإن السياسة الإسرائيلية السائدة حالياً، في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو، تميل بوضوح إلى الرؤية الثانية، أو ما هو أكثر تطرّفاً منها حتى. فرغم الخطاب العلني المؤيّد للتطبيع، فإن الممارسات على الأرض تُظهر إيلاء أولوية واضحة للمصالح الأمنية المباشرة، ورفضاً لأي مساومة على «أرض إسرائيل الكاملة». وهو رفضٌ يظلّ واحداً، سواء انطلق من اعتقاد توراتي يتبنّاه جزء من الائتلاف الحاكم، أو من موقف يميني تتّخذه أحزاب غير دينية، وفي مقدّمتها «الليكود»، الذي يفضّل علاقات لذاتها مع الأنظمة العربية من دون أيّ ربط بالقضية الفلسطينية أو تنازلات أمنية أو سياسية أو جغرافية.
مع اندلاع الحرب على غزة، دخلت العلاقات مع الدول المطبّعة، وخصوصاً تلك التي انضمّت حديثاً إلى ركب التطبيع عبر «اتفاقات أبراهام»، مرحلة «ازدواجية» واضحة؛ إذ تراجعت العلاقات «المدنية» بشكل كبير، وعُلّقت مبادرات اقتصادية وثقافية وزيارات متبادلة، وانحسر الخطاب المؤيّد للتطبيع، وذلك تحت تأثير حرب الإبادة التي أثارت غضباً في الشارع العربي، دفَع الحكومات إلى تفضيل «تبريد العلاقات» من دون قطع الجسور مع إسرائيل. لكن المفارقة أن هذا التبريد العلني لم ينسحب على المجال الأمني، حيث استمرّ التنسيق واتّسع، خصوصاً في مواجهة ما يوصف بـ«التهديدات المشتركة»، كإيران وأعداء إسرائيل في المنطقة. وعلى هذه الخلفية، تحوّل التطبيع إلى علاقة من طبقتين: طبقة أمنية فعّالة تعمل بصمت، وطبقة علنية توحي بالتجميد، وهو ما أدّى، عملياً، إلى تعزُّز التفسير اليميني للتطبيع، والذي يتماشى مع أجندات مكوّنات الحكومة الحالية.
قبل الحرب، راهنت إسرائيل على أن «اتفاقات أبراهام» مع دول الخليج والمغرب والسودان، ستحقّق تطبيعاً معزولاً عن القضية الفلسطينية، وأن «الفيتو الفلسطيني» انتهى إلى غير رجعة، لا بل بدا أن السعودية نفسها أقرب إلى تطبيع غير مشروط بأفق سياسي للفلسطينيين. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023، لم يعد هذا الرهان ممكناً، ما لم تُقدِم إسرائيل على مبادرات تجاه الفلسطينيين، وهو ما ترفضه تل أبيب تماماً إلى الآن. وإذا كان إصرار إسرائيل على فصل المسارَين، بقاء العلاقات مع الأنظمة دون الشعوب، فإن هذا الاتجاه لا يلقى معارضة حقيقية داخل الكيان، بل قد يكون مطلباً. كما أن بقاء السعودية خارج دائرة التطبيع الرسمي، مع الاقتصار على علاقات أمنية وسياسية بها في الغرف المغلقة، لا يعدّ خسارة من وجهة النظر الإسرائيلية الحالية، طالما أن الثمن المطلوب لتجاوز ذلك هو تنازل في الملف الفلسطيني.
في المحصلة، هل ما يزال التطبيع أولوية في إسرائيل؟ المؤسسة الأمنية، بما فيها الجيش وأجهزة الاستخبارات، ترى في التطبيع عنصراً حاسماً لـ«الاستقرار الإقليمي»، الأمر الذي يستوجب الدفع في اتّجاه تعزيزه، خصوصاً إذا أسهم في تعميق التعاون الأمني والاستخباراتي مع الأنظمة العربية. أما المؤسّسة السياسية، وتحديداً الحكومة الحالية، فلا تضعه على رأس أولوياتها، بل إن بعض مكوّناتها تدعو إلى حذفه من الأجندة تماماً، خصوصاً إذا ما تعارض مع مشاريع داخلية توسّعية تتعلّق بـ«أرض إسرائيل الكبرى»، وترفض أن يتجاوز ثمنه مجرّد وعود سياسية قابلة للتراجع عنها لاحقاً، لا بل تدعو الدول العربية إلى دفع ثمنه إذا ما أرادته.
ما يمكن ترجيحه حالياً هو مواصلة المسار الحالي: رفض التطبيع بمعناه الواسع، والاقتصار على الجوانب الأمنية والاستخباراتية، مع الحفاظ على جسور العلاقات السياسية بالأنظمة. وفي حال غيّرت الأخيرة مقاربتها في خصوص فلسطين، فقد ترى إسرائيل في التطبيع العلني الكامل، محلاً لإعادة النظر والدراسة، مع استمرار الإصرار على فصله عن القضية الفلسطينية. وإذا كان التطبيع في السابق هو بوابة للاعتراف الإقليمي بالدولة العبرية، فإنه الآن لم يعُد هدفاً استراتيجياً، بل أداة تكتيكية قابلة للاستخدام أو التجميد، بحسب الحاجة والظرف.
استراتيجية تمكين «الوحش»: الشرق الأوسط باقٍ «مصدر إزعاج» لأميركا
ريم هاني
«الأيام التي هيمنت فيها منطقة الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في ما يتعلّق بالتخطيط الطويل الأجل أو التنفيذ اليومي، قد ولّت لحسن الحظ؛ لا لأن الشرق الأوسط لم يعُد مهماً، بل لأنه لم يعُد مصدر الإزعاج المستمر والمصدر المحتمل للكارثة الوشيكة، كما كان في السابق». بهذه العبارات، حدّدت استراتيجة الأمن القومي التي كشفت عنها إدارة دونالد ترامب، هذا الشهر، سياسة واشنطن «الجديدة» تجاه المنطقة، مصوّرةً الأخيرة على أنها محض «مكان للشراكة والصداقة والاستثمار». وطبقاً للوثيقة الممتدّة على 29 صفحة، فإن «الشرق الأوسط أصبح أكثر استقراراً»، بعدما باتت إيران، بشكل خاص، «ضعيفة جداً» على خلفية «الإجراءات» الإسرائيلية منذ الـ7 من أكتوبر 2023، فضلاً عن القصف الأميركي لمنشآتها النووية. وفيما تحاول واشنطن استمالة «شركائها» العرب بالصفقات والاستثمارات، لم تكن مستغرَبةً إشارة الوثيقة إلى أن «الشركاء في الشرق الأوسط يُظهرون التزامهم بمكافحة التطرف، وهو توجّه يجب أن تستمر السياسة الأميركية في تشجيعه»، منوهةً في المقابل إلى أن «القيام بذلك سوف يتطلّب التخلي عن التجربة الأميركية المضللة في إجبار هذه الدول – وخاصة ممالك الخليج – على التخلّي عن تقاليدها وأشكال الحكم التاريخية فيها».
على هذا النحو، رسّخت الوثيقة الأحدث، التوجّه الأميركي المستمرّ منذ سنوات في الشرق الأوسط، والقائم على تهميش القضايا الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي دأب المسؤولون الأميركيون على التأكيد أنها «لم تعُد ضمن أولويات السياسة الخارجية» لبلادهم. وفي مقابل «الانسحاب» من صراعات الشرق الأوسط وترك أمر حسمها لإسرائيل بالطريقة «السهلة» أو «الصعبة» كما لا يفتأ دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو يردّدان، قرّر ساكن البيت الأبيض الحالي صبّ جام اهتمامه/ غضبه على «النصف الغربي» من الكرة الأرضية، الذي يتطلّع إلى فصله عن بقية العالم. على أن «الانفلات الإسرائيلي» المدعوم بـ«شيك أميركي على بياض»، دفع حتى بأكثر المراقبين «إعجاباً» بسياسات ترامب القائمة على القوة، والبعيدة من «المثالية»، إلى التحذير من أن الاستمرار في تغذية «الغرائز» الإسرائيلية سيحول دون التوصل إلى تسويات في الشرق الأوسط، ويخاطر بإبقاء واشنطن منخرطة في المنطقة.
بناءً على ما تقدّم، برز عدد من الأصوات التي تدعو، علناً، واشنطن إلى إعادة تقييم علاقتها مع الكيان الإسرائيلي، في حال أراد ترامب الحفاظ على «إنجازاته» الديبلوماسية الهشّة في المنطقة، والتفرّغ لأماكن أخرى حول العالم. وفي السياق، يجادل الكاتب أندرو بي. ميلر، في تقرير نشرته مجلة «فورين أفيرز»، بأن تلك العلاقة ظلّت قوية ووثيقة واستثنائية، حتى خلال حرب غزة، على ضوء تقديم إدارتين أميركيتين مختلفتين دعماً ديبلوماسياً وعسكرياً غير مشروط، أو شبه غير مشروط، لإسرائيل. على أنه طبقاً للمصدر نفسه، ترتّب على ذلك الدعم ثمن باهظ؛ إذ إنه باستثناء الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في أوائل تشرين الأول 2025، فقد عجزت واشنطن إلى حدّ كبير عن التأثير في سلوك تل أبيب، وهو ما يتّسق مع تاريخ طويل من المعاملة «الاستثنائية» لإسرائيل؛ فعلى سبيل المثال، عندما تشتري دول أخرى السلاح الأميركي، تكون الصفقات خاضعة لسلسلة من القوانين الأميركية، وهو ما لم تكن تل أبيب مجبرة، يوماً، على الامتثال له؛ كما أن الشركاء الآخرين يتجنّبون إظهار تفضيل واضح لحزب سياسي أميركي معيّن، بينما يفعل قادة إسرائيل ذلك من دون أيّ عواقب. وحتى عندما تتعارض سياسات تل أبيب مع سياسات واشنطن الخاصة، تمتنع الأخيرة عن توجيه أيّ انتقاد، ولو طفيف، إلى الأولى، في المنظمات الدولية.
والواقع أن هذه «الاستثنائية» أضرّت بمصالح الطرفين، جنباً إلى جنب أنّها «ألحقت ما ألحقته» من أذى هائل بالفلسطينيين. وبدلاً من أن تساعد في ضمان بقاء إسرائيل - وهو الهدف المُعلن لها -، فهي سمحت بترسيخ «أسوأ نزعات» القادة الإسرائيليين، والتي انعكست في استمرار التوسّع الاستيطاني غير القانوني وتصاعد عنف المستوطنين في الضفّة الغربية، وسقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين في غزّة، إضافة إلى تفشي المجاعة في بعض المناطق. كذلك، أتاح الدعم غير المشروط لإسرائيل لها الإقدام على عمليات عسكرية متهوّرة في أنحاء الشرق الأوسط، وزاد من المخاطر الوجودية التي تواجهها هي نفسها. أمّا في الولايات المتحدة، فقد أدّت حرب غزة إلى تراجع كبير في التأييد الشعبي لتل أبيب، مع وصول المواقف السلبية تجاهها إلى مستويات قياسية عبر مختلف الانتماءات السياسية. وعليه، لا يمكن، طبقاً للتقرير، لهذه العلاقة أن تستمرّ بصيغتها الحالية إلى ما لا نهاية، بل هي «تحتاج إلى مقاربة جديدة، أكثر انسجاماً مع طريقة تعامل واشنطن مع الدول الأخرى، بما في ذلك أقرب حلفائها»، تشمل توقّعات واضحة وحدوداً، ومحاسبة على الالتزام بالقانونين الأميركي والدولي، وربط الدعم بشروط، لا سيما عندما «تتناقض السياسات الإسرائيلية مع المصالح الأميركية»، جنباً إلى جنب منع التدخّل في سياسة واشنطن الداخلية.
وما يعزّز أهمية هذا التغيير، بحسب أصحاب الرأي المتقدّم، أن إسرائيل «لا ترى سبباً لمراعاة المصالح والهواجس الأميركية، نظراً إلى أن تجاهلها لا يكلّفها شيئاً»، بل هي تبدو أكثر جرأة في تبنّي «مواقف حادة»، تتعارض غالباً مع المصالح الأميركية، وأحياناً مع مصالحها الخاصة. رغم أنها «وجّهت ضربات قاسية إلى أعداء مشتركين مع الولايات المتحدة، وأن ضمان استمرار الدعم الأميركي يساعد في ردع خصومها، لكن تفوّقها الكبير على منافسيها يخلق حافزاً معكوساً يدفعها إلى التصرّف بتهوّر وبلا مبررات أحياناً»، بينما يجعل الدعم الأميركي غير المشروط لها، الولايات المتحدة شريكة في أفعالها، ما يعرّض قوات الأخيرة أحياناً لردود مباشرة. فعلى سبيل المثال، لم تقابَل العمليات الإسرائيلية في لبنان وسوريا، خلال الربيع والصيف، إلا باحتجاجات أميركية شكلية وضعيفة؛ كما أن ترامب لم يتدخّل للضغط من أجل وقف إطلاق نار جديد في غزة إلا في أواخر أيلول 2025، أي «بعد مقتل ما يقرب من 20 ألف فلسطيني إضافي منذ انهيار وقف إطلاق النار الأول في كانون الثاني 2025»، علماً أن هذا الضغط جاء بعد محاولة الاغتيال المتهوّرة التي نفذتها إسرائيل في أيلول ضدّ قادة «حماس» في قطر، والتي قوّضت مصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها.
في الخلاصة، وفيما تسعى واشنطن إلى «طيّ صفحة» الشرق الأوسط، فإنّ ارتباطها العضوي بإسرائيل لا يفتأ يجرّها إلى عمق الصراعات التي تحاول الهرب منها، فيما ينشغل خصومها، ولا سيما الصين وروسيا، في المقابل، بتعزيز صورتهم كقوى دولية «مسؤولة» وأكثر «أخلاقية» من داعمي آلة الإبادة الإسرائيلية.
ريم هاني
«الأيام التي هيمنت فيها منطقة الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في ما يتعلّق بالتخطيط الطويل الأجل أو التنفيذ اليومي، قد ولّت لحسن الحظ؛ لا لأن الشرق الأوسط لم يعُد مهماً، بل لأنه لم يعُد مصدر الإزعاج المستمر والمصدر المحتمل للكارثة الوشيكة، كما كان في السابق». بهذه العبارات، حدّدت استراتيجة الأمن القومي التي كشفت عنها إدارة دونالد ترامب، هذا الشهر، سياسة واشنطن «الجديدة» تجاه المنطقة، مصوّرةً الأخيرة على أنها محض «مكان للشراكة والصداقة والاستثمار». وطبقاً للوثيقة الممتدّة على 29 صفحة، فإن «الشرق الأوسط أصبح أكثر استقراراً»، بعدما باتت إيران، بشكل خاص، «ضعيفة جداً» على خلفية «الإجراءات» الإسرائيلية منذ الـ7 من أكتوبر 2023، فضلاً عن القصف الأميركي لمنشآتها النووية. وفيما تحاول واشنطن استمالة «شركائها» العرب بالصفقات والاستثمارات، لم تكن مستغرَبةً إشارة الوثيقة إلى أن «الشركاء في الشرق الأوسط يُظهرون التزامهم بمكافحة التطرف، وهو توجّه يجب أن تستمر السياسة الأميركية في تشجيعه»، منوهةً في المقابل إلى أن «القيام بذلك سوف يتطلّب التخلي عن التجربة الأميركية المضللة في إجبار هذه الدول – وخاصة ممالك الخليج – على التخلّي عن تقاليدها وأشكال الحكم التاريخية فيها».
على هذا النحو، رسّخت الوثيقة الأحدث، التوجّه الأميركي المستمرّ منذ سنوات في الشرق الأوسط، والقائم على تهميش القضايا الرئيسية في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي دأب المسؤولون الأميركيون على التأكيد أنها «لم تعُد ضمن أولويات السياسة الخارجية» لبلادهم. وفي مقابل «الانسحاب» من صراعات الشرق الأوسط وترك أمر حسمها لإسرائيل بالطريقة «السهلة» أو «الصعبة» كما لا يفتأ دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو يردّدان، قرّر ساكن البيت الأبيض الحالي صبّ جام اهتمامه/ غضبه على «النصف الغربي» من الكرة الأرضية، الذي يتطلّع إلى فصله عن بقية العالم. على أن «الانفلات الإسرائيلي» المدعوم بـ«شيك أميركي على بياض»، دفع حتى بأكثر المراقبين «إعجاباً» بسياسات ترامب القائمة على القوة، والبعيدة من «المثالية»، إلى التحذير من أن الاستمرار في تغذية «الغرائز» الإسرائيلية سيحول دون التوصل إلى تسويات في الشرق الأوسط، ويخاطر بإبقاء واشنطن منخرطة في المنطقة.
بناءً على ما تقدّم، برز عدد من الأصوات التي تدعو، علناً، واشنطن إلى إعادة تقييم علاقتها مع الكيان الإسرائيلي، في حال أراد ترامب الحفاظ على «إنجازاته» الديبلوماسية الهشّة في المنطقة، والتفرّغ لأماكن أخرى حول العالم. وفي السياق، يجادل الكاتب أندرو بي. ميلر، في تقرير نشرته مجلة «فورين أفيرز»، بأن تلك العلاقة ظلّت قوية ووثيقة واستثنائية، حتى خلال حرب غزة، على ضوء تقديم إدارتين أميركيتين مختلفتين دعماً ديبلوماسياً وعسكرياً غير مشروط، أو شبه غير مشروط، لإسرائيل. على أنه طبقاً للمصدر نفسه، ترتّب على ذلك الدعم ثمن باهظ؛ إذ إنه باستثناء الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في أوائل تشرين الأول 2025، فقد عجزت واشنطن إلى حدّ كبير عن التأثير في سلوك تل أبيب، وهو ما يتّسق مع تاريخ طويل من المعاملة «الاستثنائية» لإسرائيل؛ فعلى سبيل المثال، عندما تشتري دول أخرى السلاح الأميركي، تكون الصفقات خاضعة لسلسلة من القوانين الأميركية، وهو ما لم تكن تل أبيب مجبرة، يوماً، على الامتثال له؛ كما أن الشركاء الآخرين يتجنّبون إظهار تفضيل واضح لحزب سياسي أميركي معيّن، بينما يفعل قادة إسرائيل ذلك من دون أيّ عواقب. وحتى عندما تتعارض سياسات تل أبيب مع سياسات واشنطن الخاصة، تمتنع الأخيرة عن توجيه أيّ انتقاد، ولو طفيف، إلى الأولى، في المنظمات الدولية.
والواقع أن هذه «الاستثنائية» أضرّت بمصالح الطرفين، جنباً إلى جنب أنّها «ألحقت ما ألحقته» من أذى هائل بالفلسطينيين. وبدلاً من أن تساعد في ضمان بقاء إسرائيل - وهو الهدف المُعلن لها -، فهي سمحت بترسيخ «أسوأ نزعات» القادة الإسرائيليين، والتي انعكست في استمرار التوسّع الاستيطاني غير القانوني وتصاعد عنف المستوطنين في الضفّة الغربية، وسقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين في غزّة، إضافة إلى تفشي المجاعة في بعض المناطق. كذلك، أتاح الدعم غير المشروط لإسرائيل لها الإقدام على عمليات عسكرية متهوّرة في أنحاء الشرق الأوسط، وزاد من المخاطر الوجودية التي تواجهها هي نفسها. أمّا في الولايات المتحدة، فقد أدّت حرب غزة إلى تراجع كبير في التأييد الشعبي لتل أبيب، مع وصول المواقف السلبية تجاهها إلى مستويات قياسية عبر مختلف الانتماءات السياسية. وعليه، لا يمكن، طبقاً للتقرير، لهذه العلاقة أن تستمرّ بصيغتها الحالية إلى ما لا نهاية، بل هي «تحتاج إلى مقاربة جديدة، أكثر انسجاماً مع طريقة تعامل واشنطن مع الدول الأخرى، بما في ذلك أقرب حلفائها»، تشمل توقّعات واضحة وحدوداً، ومحاسبة على الالتزام بالقانونين الأميركي والدولي، وربط الدعم بشروط، لا سيما عندما «تتناقض السياسات الإسرائيلية مع المصالح الأميركية»، جنباً إلى جنب منع التدخّل في سياسة واشنطن الداخلية.
وما يعزّز أهمية هذا التغيير، بحسب أصحاب الرأي المتقدّم، أن إسرائيل «لا ترى سبباً لمراعاة المصالح والهواجس الأميركية، نظراً إلى أن تجاهلها لا يكلّفها شيئاً»، بل هي تبدو أكثر جرأة في تبنّي «مواقف حادة»، تتعارض غالباً مع المصالح الأميركية، وأحياناً مع مصالحها الخاصة. رغم أنها «وجّهت ضربات قاسية إلى أعداء مشتركين مع الولايات المتحدة، وأن ضمان استمرار الدعم الأميركي يساعد في ردع خصومها، لكن تفوّقها الكبير على منافسيها يخلق حافزاً معكوساً يدفعها إلى التصرّف بتهوّر وبلا مبررات أحياناً»، بينما يجعل الدعم الأميركي غير المشروط لها، الولايات المتحدة شريكة في أفعالها، ما يعرّض قوات الأخيرة أحياناً لردود مباشرة. فعلى سبيل المثال، لم تقابَل العمليات الإسرائيلية في لبنان وسوريا، خلال الربيع والصيف، إلا باحتجاجات أميركية شكلية وضعيفة؛ كما أن ترامب لم يتدخّل للضغط من أجل وقف إطلاق نار جديد في غزة إلا في أواخر أيلول 2025، أي «بعد مقتل ما يقرب من 20 ألف فلسطيني إضافي منذ انهيار وقف إطلاق النار الأول في كانون الثاني 2025»، علماً أن هذا الضغط جاء بعد محاولة الاغتيال المتهوّرة التي نفذتها إسرائيل في أيلول ضدّ قادة «حماس» في قطر، والتي قوّضت مصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها.
في الخلاصة، وفيما تسعى واشنطن إلى «طيّ صفحة» الشرق الأوسط، فإنّ ارتباطها العضوي بإسرائيل لا يفتأ يجرّها إلى عمق الصراعات التي تحاول الهرب منها، فيما ينشغل خصومها، ولا سيما الصين وروسيا، في المقابل، بتعزيز صورتهم كقوى دولية «مسؤولة» وأكثر «أخلاقية» من داعمي آلة الإبادة الإسرائيلية.
«رويترز»: القوة الدولية في غزة لن تقاتل «حماس»
نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤولين أميركيين أن قوة الاستقرار الدولية قد تُنشر في قطاع غزة في وقت مبكر من شهر كانون الثاني المقبل.
وقال المسؤولون لـ«رويترز»، إن قوة الاستقرار الدولية لن تقاتل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإن العديد من الدول أبدت رغبتها في المساهمة بها.
كما أشاروا إلى أن المسؤولين الأميركيين يعملون حالياً على «تحديد حجم القوة وتركيبتها وتدريبها وقواعد الاشتباك»، مؤكدين أنه يجري أيضاً النظر في تعيين جنرال أميركي برتبة لواء لقيادة القوة، لكن لا قرار اتخذ بعد بهذا الصدد.
ونقل موقع «أكسيوس» عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، أن إدارة الرئيس دونالد ترامب هي الآن «في المراحل الأخيرة من تشكيل هيكل الحكم الجديد لغزة»، وأنه من المرجح أن يعيّن ترامب جنرالاً أميركياً لقيادة قوة الاستقرار الدولية بالقطاع.
ويعطي قرار تبنّاه مجلس الأمن الدولي في 17 تشرين الثاني الماضي، تفويضاً لـ«مجلس سلام» في غزة والدول التي تتعاون معه من أجل تأسيس قوة استقرار دولية مؤقتة في القطاع.
نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤولين أميركيين أن قوة الاستقرار الدولية قد تُنشر في قطاع غزة في وقت مبكر من شهر كانون الثاني المقبل.
وقال المسؤولون لـ«رويترز»، إن قوة الاستقرار الدولية لن تقاتل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإن العديد من الدول أبدت رغبتها في المساهمة بها.
كما أشاروا إلى أن المسؤولين الأميركيين يعملون حالياً على «تحديد حجم القوة وتركيبتها وتدريبها وقواعد الاشتباك»، مؤكدين أنه يجري أيضاً النظر في تعيين جنرال أميركي برتبة لواء لقيادة القوة، لكن لا قرار اتخذ بعد بهذا الصدد.
ونقل موقع «أكسيوس» عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، أن إدارة الرئيس دونالد ترامب هي الآن «في المراحل الأخيرة من تشكيل هيكل الحكم الجديد لغزة»، وأنه من المرجح أن يعيّن ترامب جنرالاً أميركياً لقيادة قوة الاستقرار الدولية بالقطاع.
ويعطي قرار تبنّاه مجلس الأمن الدولي في 17 تشرين الثاني الماضي، تفويضاً لـ«مجلس سلام» في غزة والدول التي تتعاون معه من أجل تأسيس قوة استقرار دولية مؤقتة في القطاع.
لبنان: ذوو الأسرى في إسرائيل يطالبون بمعرفة مصير أبنائهم
نظّم أهالي الأسرى اللبنانيين وقفة أمام مقر "الإسكوا" في بيروت، الجمعة، مطالبين بكشف مصير أبنائهم في السجون الإسرائيلية والإفراج عنهم، وذلك بعد يوم واحد من إحياء اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
واعتقلت إسرائيل عددًا من المدنيين اللبنانيين، بالإضافة إلى "مقاتلي حزب الله"، ولا تزال الأرقام الرسمية غير واضحة، كما وقتلت إسرائيل أكثر من 4 آلاف شخص وأصابت نحو 17 ألفا آخرين، خلال عدوانها على لبنان الذي بدأته في أكتوبر 2023، قبل أن تحوله في أيلول/ سبتمبر 2024 إلى حرب شاملة.
إلى ذلك، عمدت إلى خرق اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من 4500 مرة، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى، فضلاً عن احتلالها 5 تلال لبنانية سيطرت عليها في الحرب الأخيرة، إضافة إلى مناطق أخرى تحتلها منذ عقود.
عودة الأسرى أولوية في المفاوضات
وفي السياق، أكد الرئيس اللبناني، جوزيف عون، أن عودة الأسرى المعتقلين اللبنانيين في إسرائيل "تشكل أولوية في المفاوضات" التي تجري مع إسرائيل.
وأوضح، خلال لقائه وفد "الجمعية اللبنانية للأسرى والمحررين"، أن "الاتصالات مستمرة لإطلاقهم، آملاً الوصول إلى نتائج إيجابية في أسرع وقت ممكن".
نظّم أهالي الأسرى اللبنانيين وقفة أمام مقر "الإسكوا" في بيروت، الجمعة، مطالبين بكشف مصير أبنائهم في السجون الإسرائيلية والإفراج عنهم، وذلك بعد يوم واحد من إحياء اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
واعتقلت إسرائيل عددًا من المدنيين اللبنانيين، بالإضافة إلى "مقاتلي حزب الله"، ولا تزال الأرقام الرسمية غير واضحة، كما وقتلت إسرائيل أكثر من 4 آلاف شخص وأصابت نحو 17 ألفا آخرين، خلال عدوانها على لبنان الذي بدأته في أكتوبر 2023، قبل أن تحوله في أيلول/ سبتمبر 2024 إلى حرب شاملة.
إلى ذلك، عمدت إلى خرق اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من 4500 مرة، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى، فضلاً عن احتلالها 5 تلال لبنانية سيطرت عليها في الحرب الأخيرة، إضافة إلى مناطق أخرى تحتلها منذ عقود.
عودة الأسرى أولوية في المفاوضات
وفي السياق، أكد الرئيس اللبناني، جوزيف عون، أن عودة الأسرى المعتقلين اللبنانيين في إسرائيل "تشكل أولوية في المفاوضات" التي تجري مع إسرائيل.
وأوضح، خلال لقائه وفد "الجمعية اللبنانية للأسرى والمحررين"، أن "الاتصالات مستمرة لإطلاقهم، آملاً الوصول إلى نتائج إيجابية في أسرع وقت ممكن".
الاستقواء في أخطر مراحله
سعد الله مزرعاني
كاتب وسياسي لبناني
المحطة أو الموجة الراهنة من الاستقواء بالخارج، البعيد والقريب، ليست أمراً طارئاً أو استثنائياً، في المشهد السياسي اللبناني. تقتضي أي مراجعة تاريخية الرجوع، على الأقل، إلى أواسط القرن التاسع عشر. تبلورُ لبنان ورسوَه على حالته الراهنة، استند، بشكل شديد الوضوح، إلى تفاعل العوامل الداخلية والخارجية بدور أكبر وأفعل للثانية. العامل الخارجي استمر حاضراً بقوة في تكوين لبنان المعاصر، وغالباً بالتحكم في العلاقات والتوازنات بين مكوناته. نكتفي بإيراد عناوين بعض المراحل والمحطات الصاخبة الدلالة في هذا الصدد.
إحدى أكبر وأبرز المحطات، ذات الطابع التأسيسي، تعود إلى الحقبة الممتدة منذ أواسط القرن التاسع عشر (أي تفاقم وهن السلطنة العثمانية وتحولها إلى «الرجل المريض» (دور القناصل والحمايات ونشوء «القائمقاميتين» و«المتصرفية»)، إلى انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة العثمانيين وانتصار «الحلفاء» الغربيين (إعلان دولة «لبنان الكبير»).
أُعلن «لبنان الكبير» عام 1920، برعاية وإدارة الاستعمار الفرنسي، في سياق فرض تحولات تأسيسية في المنطقة العربية متداخلة، خارجياً ومحلياً، بالتوازي مع مشروع اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها (برعاية الانتداب الاستعماري البريطاني). إسرائيلياً، لعبت «الوكالة اليهودية» الدور الأبرز في نشوء الكيان الصهيوني وفي اختيار فلسطين وشعبها ضحية لذلك المشروع الإرهابي. في لبنان، لعبت النخب السياسية والتجارية والكنسيّة المارونية الدور المحلي المبادِر والأبرز. نشأ، منذ البدايات، نزاع بشأن مبدأ الانضمام إلى «لبنان الكبير». جزء من سكان المناطق والأقضية «المضافة»، ساحلاً وبقاعاً، طالب بالانضمام إلى سوريا.
انطوت عملية التأسيس والتكريس على امتيازات وأرجحية مخلة. تكامل ذلك مع جهد وإصرار على إضفاء طابع هوياتي مرجعي على «لبنان الكبير» عبر الانتماء إلى الغرب: سلوكاً وثقافة وسياسة واقتصاداً... المستعمر تحوَّل إلى «الأم الحنون». الرعاية أصبحت جزءاً ومكوناً رئيسياً من التأسيس وتوفير شروط الثبات والاستمرارية بالتبعية. التبرير النظري الأيديولوجي تبلور سريعاً: لبنان «إذا استقل اهتز»، كما عبَّر أحد أركان «الجبهة اللبنانية» المنظّر السياسي إدوار حنين، وكما روَّج قبله المفكر والمصرفي ميشال شيحا.
مع تحولات دولية وإقليمية جوهرية أطلقتها نتائج الحرب العالمية الثانية في حقول الاقتصاد والسياسة والعلاقات، قفزت واشنطن إلى موقع الصدارة الاستعمارية في العالم. لم يتردد كميل شمعون، ثاني رئيس الجمهورية والمرتبط بلندن وواشنطن، في الانضمام إلى «حلف بغداد» و«مشروع أيزنهاور»: لمواجهة «المد» الناصري التحرري. كذلك سارع إلى استدعاء «الأسطول السادس» الأميركي لـ«الاستقواء» به على معارضي سياسته الخارجية ومحاولته تجديد ولايته خلافاً للدستور، وبوسائل التزوير والقمع. اهتز الوضع اللبناني: توتر واحتراب أهلي وضعت حداً لهما تسوية سياسية انطوت، عبر الرئيس فؤاد شهاب، على جرعة إصلاح جزئي أُطيح بها، تباعاً، لحساب تعزيز التحاصص وتعميمه.
الخلل تمثّل دائماً في رفض نظام المواطنة المتساوية بادعاء أن لبنان «طائفي» بطبيعته، وأن الطائفية و«الامتيازات» هما ضمانتا وجود وحقوق، وليستا عامل تمييز واحتكار، أو عنوان غلبة وأفضلية! تطورات ومصالح متنوعة، محلية وخارجية، وفّرت إجماع كل القوى الممثّلة في «الصيغة اللبنانية» على تبني نظام «الكوتا الطائفية». توسّع وتعزّز عامل الاستقواء بالخارج كعنصر بنيوي في المحافظة على «الصيغة» الطائفية وفي إدامتها: أداة للبورجوازية الكبرى وبقايا الإقطاع السياسي في السيطرة على السلطة، أو في تثبيت أو تغيير توازناتها.
عام 1982 كانت المحطة الثانية الأساسية في عدم الاستفادة من دروس الماضي، وفي تفجير حرب أهلية مديدة ودامية، متداخلة العوامل والعناصر المحلية والخارجية. نظر الطرف الممسك بالسلطة والضليع في الاستقواء، إلى الدور الفلسطيني بوصفه فقط عامل إخلال بالتوازن السياسي والديموغرافي. توسّل أوّلاً، المنافس السوري، حين امتنع العدو الإسرائيلي عن التدخل العسكري الواسع في السنوات الأولى من الصراع. واشنطن دخلت بقوة على المسرح اللبناني «وسيطة» (عدّة وسطاء أبرزهم فيليب حبيب) وصاحبة خطة متكاملة كان أبرز بنودها الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
أدّى الغزو إلى فرض انتخاب بشير الجميل (ثم أخيه) رئيساً للجمهورية، في امتداد علاقات تسليح وتدريب، وتشجيع ورعاية إقامة «دويلة سعد حداد»، ثم أنطوان لحد، على أجزاء من أقضية الجنوب الحدودية. «حلم» ومشروع قائد «القوات اللبنانية» الكتائبية بشير الجميل، سقط بالاغتيال، اتفاق 17 أيار وُلد ميتاً، لم يُبرم أو يكمل السنة تحت ضربات مقاومة عسكرية وشعبية واسعة ومنتصرة تُوّجت بانسحاب إسرائيلي مُذِل وشبه كامل عام 2000. الهزيمة القاسية لحقت أيضاً بالقوات الأطلسية «المتعددة الجنسيات» التي واكبت الاحتلال الإسرائيلي بالدعم والحماية: كانت تجربة استقواء مريرة استمرت مفاعيلها حتى عام 2005.
في مواجهة مشاريع فرض إسرائيل على المنطقة وتصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني، بإدارة واشنطن وبمشاركة وتواطؤ حلفائها وأتباعها، كانت محطة 7 أكتوبر، بعنوان «طوفان الأقصى». تحول الرد بقرار أطلسي/ إسرائيلي إلى حرب شاملة. رئيس حكومة اليمين الفاشي العنصري في كيان العدو أعلن، متوعّداً، إعادة «رسم خريطة المنطقة»، وباشر حرب الإبادة في غزة برعاية واشنطن والغرب الأطلسي. شنَّ حرباً تدميرية شاملة على لبنان على إيقاع «خطة ترامب» القاضية بإدماج الكيان الصيهوني في المنطقة: لاعباً محورياً في تحديد مصائرها في كنف مشروع السيطرة الأميركية الكاملة عليها.
في ظل هذه الخطة تمّ ملء الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومة الحالية. القوى اليمينية المتطرفة التي خبرت الاستقواء بالعدو الصهيوني كما أسلفنا سابقاً، وجدت الظرف ملائماً تماماً لصعودها إلى السلطة، في تكرار، لم تكتمل كل شروطه بعد، لتجربتها عام 1982. استئناف الاحتلال وتوسيعه هو موضع الرهان الأساسي لهذه القوى حتى في مواجهة رئيس الجمهورية، ونسبياً رئيس الحكومة.
طبعاً، دون ذلك صعوبات جمّة بالنسبة إلى المحتل وحماته، بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها، والمقاومة المشهودة التي واجهته، وعجزه المتكرر عن إحداث اختراق بري جوهري. إلى ذلك، ثمة عامل دولي مهم يتمثَّل في الحملة السياسية والشعبية الهائلة ضد جرائم العدو وارتكاباته الفظيعة وخصوصاً حرب الإبادة. لكن كل ذلك، فضلاً عن خيبات ومرارات التجارب السابقة، لم يدفع هذا الفريق الذي يصر على أنه «سيادي» بامتياز، للتراجع عن رهانه الخاطئ والخطير والمدمر له قبل الآخرين.
الوضع يراوح الآن ما بين الانقسام الجزئي في صفوف الفريق المتعاون مع واشنطن، بشأن الوسائل الممكنة أو المناسبة، وبين التناقض الأساسي حيال مصير لبنان ومستقبله: الخضوع والانصياع لواشنطن وتل أبيب، أم الصمود وإفشال مخططهما، وما يملي ذلك من مواجهة حروب، وفتن داخلية، وخطوات مغامرة مهدّدة لمجمل الوجود اللبناني؟
سعد الله مزرعاني
كاتب وسياسي لبناني
المحطة أو الموجة الراهنة من الاستقواء بالخارج، البعيد والقريب، ليست أمراً طارئاً أو استثنائياً، في المشهد السياسي اللبناني. تقتضي أي مراجعة تاريخية الرجوع، على الأقل، إلى أواسط القرن التاسع عشر. تبلورُ لبنان ورسوَه على حالته الراهنة، استند، بشكل شديد الوضوح، إلى تفاعل العوامل الداخلية والخارجية بدور أكبر وأفعل للثانية. العامل الخارجي استمر حاضراً بقوة في تكوين لبنان المعاصر، وغالباً بالتحكم في العلاقات والتوازنات بين مكوناته. نكتفي بإيراد عناوين بعض المراحل والمحطات الصاخبة الدلالة في هذا الصدد.
إحدى أكبر وأبرز المحطات، ذات الطابع التأسيسي، تعود إلى الحقبة الممتدة منذ أواسط القرن التاسع عشر (أي تفاقم وهن السلطنة العثمانية وتحولها إلى «الرجل المريض» (دور القناصل والحمايات ونشوء «القائمقاميتين» و«المتصرفية»)، إلى انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة العثمانيين وانتصار «الحلفاء» الغربيين (إعلان دولة «لبنان الكبير»).
أُعلن «لبنان الكبير» عام 1920، برعاية وإدارة الاستعمار الفرنسي، في سياق فرض تحولات تأسيسية في المنطقة العربية متداخلة، خارجياً ومحلياً، بالتوازي مع مشروع اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها (برعاية الانتداب الاستعماري البريطاني). إسرائيلياً، لعبت «الوكالة اليهودية» الدور الأبرز في نشوء الكيان الصهيوني وفي اختيار فلسطين وشعبها ضحية لذلك المشروع الإرهابي. في لبنان، لعبت النخب السياسية والتجارية والكنسيّة المارونية الدور المحلي المبادِر والأبرز. نشأ، منذ البدايات، نزاع بشأن مبدأ الانضمام إلى «لبنان الكبير». جزء من سكان المناطق والأقضية «المضافة»، ساحلاً وبقاعاً، طالب بالانضمام إلى سوريا.
انطوت عملية التأسيس والتكريس على امتيازات وأرجحية مخلة. تكامل ذلك مع جهد وإصرار على إضفاء طابع هوياتي مرجعي على «لبنان الكبير» عبر الانتماء إلى الغرب: سلوكاً وثقافة وسياسة واقتصاداً... المستعمر تحوَّل إلى «الأم الحنون». الرعاية أصبحت جزءاً ومكوناً رئيسياً من التأسيس وتوفير شروط الثبات والاستمرارية بالتبعية. التبرير النظري الأيديولوجي تبلور سريعاً: لبنان «إذا استقل اهتز»، كما عبَّر أحد أركان «الجبهة اللبنانية» المنظّر السياسي إدوار حنين، وكما روَّج قبله المفكر والمصرفي ميشال شيحا.
مع تحولات دولية وإقليمية جوهرية أطلقتها نتائج الحرب العالمية الثانية في حقول الاقتصاد والسياسة والعلاقات، قفزت واشنطن إلى موقع الصدارة الاستعمارية في العالم. لم يتردد كميل شمعون، ثاني رئيس الجمهورية والمرتبط بلندن وواشنطن، في الانضمام إلى «حلف بغداد» و«مشروع أيزنهاور»: لمواجهة «المد» الناصري التحرري. كذلك سارع إلى استدعاء «الأسطول السادس» الأميركي لـ«الاستقواء» به على معارضي سياسته الخارجية ومحاولته تجديد ولايته خلافاً للدستور، وبوسائل التزوير والقمع. اهتز الوضع اللبناني: توتر واحتراب أهلي وضعت حداً لهما تسوية سياسية انطوت، عبر الرئيس فؤاد شهاب، على جرعة إصلاح جزئي أُطيح بها، تباعاً، لحساب تعزيز التحاصص وتعميمه.
الخلل تمثّل دائماً في رفض نظام المواطنة المتساوية بادعاء أن لبنان «طائفي» بطبيعته، وأن الطائفية و«الامتيازات» هما ضمانتا وجود وحقوق، وليستا عامل تمييز واحتكار، أو عنوان غلبة وأفضلية! تطورات ومصالح متنوعة، محلية وخارجية، وفّرت إجماع كل القوى الممثّلة في «الصيغة اللبنانية» على تبني نظام «الكوتا الطائفية». توسّع وتعزّز عامل الاستقواء بالخارج كعنصر بنيوي في المحافظة على «الصيغة» الطائفية وفي إدامتها: أداة للبورجوازية الكبرى وبقايا الإقطاع السياسي في السيطرة على السلطة، أو في تثبيت أو تغيير توازناتها.
عام 1982 كانت المحطة الثانية الأساسية في عدم الاستفادة من دروس الماضي، وفي تفجير حرب أهلية مديدة ودامية، متداخلة العوامل والعناصر المحلية والخارجية. نظر الطرف الممسك بالسلطة والضليع في الاستقواء، إلى الدور الفلسطيني بوصفه فقط عامل إخلال بالتوازن السياسي والديموغرافي. توسّل أوّلاً، المنافس السوري، حين امتنع العدو الإسرائيلي عن التدخل العسكري الواسع في السنوات الأولى من الصراع. واشنطن دخلت بقوة على المسرح اللبناني «وسيطة» (عدّة وسطاء أبرزهم فيليب حبيب) وصاحبة خطة متكاملة كان أبرز بنودها الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
أدّى الغزو إلى فرض انتخاب بشير الجميل (ثم أخيه) رئيساً للجمهورية، في امتداد علاقات تسليح وتدريب، وتشجيع ورعاية إقامة «دويلة سعد حداد»، ثم أنطوان لحد، على أجزاء من أقضية الجنوب الحدودية. «حلم» ومشروع قائد «القوات اللبنانية» الكتائبية بشير الجميل، سقط بالاغتيال، اتفاق 17 أيار وُلد ميتاً، لم يُبرم أو يكمل السنة تحت ضربات مقاومة عسكرية وشعبية واسعة ومنتصرة تُوّجت بانسحاب إسرائيلي مُذِل وشبه كامل عام 2000. الهزيمة القاسية لحقت أيضاً بالقوات الأطلسية «المتعددة الجنسيات» التي واكبت الاحتلال الإسرائيلي بالدعم والحماية: كانت تجربة استقواء مريرة استمرت مفاعيلها حتى عام 2005.
في مواجهة مشاريع فرض إسرائيل على المنطقة وتصفية قضية وحقوق الشعب الفلسطيني، بإدارة واشنطن وبمشاركة وتواطؤ حلفائها وأتباعها، كانت محطة 7 أكتوبر، بعنوان «طوفان الأقصى». تحول الرد بقرار أطلسي/ إسرائيلي إلى حرب شاملة. رئيس حكومة اليمين الفاشي العنصري في كيان العدو أعلن، متوعّداً، إعادة «رسم خريطة المنطقة»، وباشر حرب الإبادة في غزة برعاية واشنطن والغرب الأطلسي. شنَّ حرباً تدميرية شاملة على لبنان على إيقاع «خطة ترامب» القاضية بإدماج الكيان الصيهوني في المنطقة: لاعباً محورياً في تحديد مصائرها في كنف مشروع السيطرة الأميركية الكاملة عليها.
في ظل هذه الخطة تمّ ملء الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومة الحالية. القوى اليمينية المتطرفة التي خبرت الاستقواء بالعدو الصهيوني كما أسلفنا سابقاً، وجدت الظرف ملائماً تماماً لصعودها إلى السلطة، في تكرار، لم تكتمل كل شروطه بعد، لتجربتها عام 1982. استئناف الاحتلال وتوسيعه هو موضع الرهان الأساسي لهذه القوى حتى في مواجهة رئيس الجمهورية، ونسبياً رئيس الحكومة.
طبعاً، دون ذلك صعوبات جمّة بالنسبة إلى المحتل وحماته، بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها، والمقاومة المشهودة التي واجهته، وعجزه المتكرر عن إحداث اختراق بري جوهري. إلى ذلك، ثمة عامل دولي مهم يتمثَّل في الحملة السياسية والشعبية الهائلة ضد جرائم العدو وارتكاباته الفظيعة وخصوصاً حرب الإبادة. لكن كل ذلك، فضلاً عن خيبات ومرارات التجارب السابقة، لم يدفع هذا الفريق الذي يصر على أنه «سيادي» بامتياز، للتراجع عن رهانه الخاطئ والخطير والمدمر له قبل الآخرين.
الوضع يراوح الآن ما بين الانقسام الجزئي في صفوف الفريق المتعاون مع واشنطن، بشأن الوسائل الممكنة أو المناسبة، وبين التناقض الأساسي حيال مصير لبنان ومستقبله: الخضوع والانصياع لواشنطن وتل أبيب، أم الصمود وإفشال مخططهما، وما يملي ذلك من مواجهة حروب، وفتن داخلية، وخطوات مغامرة مهدّدة لمجمل الوجود اللبناني؟
عبد العال في ذكرى انطلاقة الجبهة: المقاومة الشاملة والوحدة الوطنية والتفاؤل الثوري معادلة التحرّر
أحمد زقوت
في ذكرى انطلاقتها الثامنة والخمسين، وفي لحظة فلسطينية هي الأكثر دموية وتعقيدًا منذ عقود، تعود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى واجهة النقاش الوطني بوصفها تيارًا ثوريًا لم يفصل يومًا بين المقاومة والسياسة، ولا بين التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية.
في ظل حرب إبادة مفتوحة على قطاع غزة، وانسداد الأفق السياسي، واستمرار الانقسام، وتهافت مشاريع التصفية والتطبيع، يقدّم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية الرفيق مروان عبد العال قراءة شاملة لمسار الجبهة وتجربتها النضالية، ويضع تصورًا واضحًا للمرحلة المقبلة، من موقع المقاومة الشاملة، ووحدة الهدف، وتجديد أدوات الفعل الثوري.
في هذه المقابلة مع "بوابة الهدف"، يتوقف عبد العال عند دروس 58 عامًا من الكفاح، ويقيّم اتفاق غزة الأخير، ويحدّد أولويات المواجهة السياسية والميدانية، ودور الشباب، ومخاطر التطبيع، وشروط أي تفاهمات قادمة، موجّهًا رسالة واضحة إلى الشعب الفلسطيني والأجيال القادمة: أن فلسطين لا تُدار ولا تُصفّى، بل تُحرَّر بإرادة شعبها، وبوضوح برنامجها، وبوعيٍ يحمي المعنى قبل الأرض.
58 عامًا من الصمود والثبات
ويؤكد عبد العال، أنّه على امتداد ثمانية وخمسين عامًا، حافظت الجبهة الشعبية على موقعها كتيار ثوري واضح، يربط بين التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية، ويقاوم كل أشكال التسوية الانتقاصية، كما واجهت الجبهة خلال هذه السنوات تحديات كبرى، شملت الحصار السياسي، والانقسام الداخلي الفلسطيني، وتبدّل موازين القوى الإقليمية، وتصاعد الهجمة الاستعمارية–الفاشية على غزة والضفة والمنطقة عمومًا، ولا سيما استهداف ركائز جبهة المقاومة على المستوى الإقليمي.
وبين عبد العال، أنّه برغم هذه الصعوبات، نجحت الجبهة في الحفاظ على حضورها الكفاحي والميداني والاجتماعي والسياسي والإعلامي والثقافي، مع الحفاظ على خطها الفكري والنضالي بالمعنى الثوري، لتظل عنوانًا للثبات في زمن التراجعات.
ويشير ضيف "الهدف"، أنّ التجربة تؤكد أنّ المقاومة ليست فعلًا أحاديًا، بل مشروعًا شاملًا يحتاج إلى حشد كل الطاقات الشعبية والحزبية في مختلف تجمعات شعبنا وعلى امتداد ساحات الصراع، كما أنّ قوة المقاومة تكمن في قدرتها على إطلاق الفعل على أوسع نطاق، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فاعليتها تُقاس بمدى استنادها إلى بنية مجتمعية وثقافية وسياسية متماسكة، ما يستدعي تعزيزها باستمرار، باعتبار أن المقاومة الشاملة مركزية للعمل الثوري.
ويستكمل القيادي في الجبهة، أنّ "التجربة أكدت الحاجة الدائمة إلى ضخ دماء جديدة، وتطوير أدوات التنظيم والعمل الجماهيري والنقابي والشبابي، فيما أظهرت كذلك أنّ الأساس في أي مشروع تحرّر وطني هو "وحدة الهدف قبل وحدة الفصائل"، فالاستراتيجية الفلسطينية يجب أن تُبنى انطلاقًا من هذا الهدف الجامع: التحرّر الكامل، على أن تأتي البنية التنظيمية كأداة لتحقيقه، لا كغاية بحد ذاتها.
ويبين عبد العال، أنّه "لا شك أن الواقع الإقليمي يثبت أن فلسطين لا تُحرَّر بمعزل عن محيطها، بل ضمن عملية ثورية تاريخية تشمل المنطقة، ما يتطلب إعادة بناء جبهة دعم عربية وشعبية، باعتبارها شرط القوة، كما أنّ الوعي، في هذا السياق، يشكّل خط الدفاع الأول، وخسارته أخطر من خسارة الأرض، وهو ما يجعل إعادة الاعتبار للثقافة وإرث المؤسسين ضرورة استراتيجية وليست ترفًا".
ويشدد عضو المكتب السياسي، على أنّ الجبهة الشعبية تقدّم نموذجًا للاستمرار والعطاء والفداء رغم الصعوبات، مع القدرة على مراجعة الذات دون التفريط بالثوابت. والدرس الأكبر للمرحلة المقبلة هو أن المقاومة تحتاج إلى مزید من الوضوح، والتنظيم، والوعي، وهي ثلاثية لا تزال الجبهة تمتلك عناصر قوتها.
لحظة غزة والانقسام: إعادة تعريف الأولويات الوطنية
وبشأن استمرار العدوان والانقسام، يقول الرفيق عبد العال، إنّ "لحظة غزة عرّت الكثير من القوى السياسية؛ فبعضها قاتل حتى النهاية، وبعضها جمّد نفسه داخل حساباته القديمة، فيما اكتفى آخرون بالتصريحات الشكلية التي لم يكن لها أي أثر على الأرض"، مضيفًا أنّ "منظمة التحرير، بوصفها الإطار المفترض لحمل المشروع الوطني، فقد بدت عاجزة عن استعادة دورها التاريخي، واكتفت بموقع رمزي بلا قدرة فعلية على التأثير أو التعبئة، وكذلك انكشفت حدود السلطة الفلسطينية، التي باتت وظيفتها الأمنية والإدارية لا تتجاوز إدارة اليومي تحت الاحتلال، من دون أي قدرة على صياغة خيارات حقيقية للتحرّر".
ويؤكد القيادي، أنّ "الأولوية بالنسبة للجبهة الشعبية، في ظل تداعيات العدوان المستمر على واقعنا الفلسطيني، هي صياغة معادلة متكاملة لحماية القضية الفلسطينية، تقوم على تعزيز المقاومة الشاملة وإعادة تعريف وظيفة الحركة الوطنية، فالمواجهة الحالية أثبتت أن المقاومة في قلب المعادلة، لكن السؤال المركزي هو: كيف تكون في قلب الصراع، وكيف يتكامل دورها في إدارة الاشتباك، وإدامته، وتوسيع دائرته، وتحصين حاضنته الشعبية؟".
وتابع: "ندرك أن تحويل الانقسام إلى أداة لتبديد القوة الوطنية، وتحويل مؤسسات الشعب إلى جزر معزولة، يخدم أهداف العدو الساعي إلى تمزيق الكيانية الفلسطينية سياسيًا وجغرافيًا. ولذلك، فإن إعادة بناء الوحدة الوطنية على أساس برنامج تحرري واضح تشكّل مطلبًا ملحًا، باعتبار أن وحدة الهدف هي الشرط الضروري. ومن هنا، يصبح دور الجبهة العمل على بلورة رؤية مشتركة تعيد صياغة وظيفة الفصائل والسلطة والمؤسسات، بحيث تتكامل جميعها ضمن استراتيجية واحدة للمقاومة والتحرّر".
المعركة على المعنى قبل الأرض
وعن البعد الإقليمي والدولي، يؤكد عبد العال، أنّه "من موقعنا اليساري وتحالفاتنا الأممية، وحضورنا في الجاليات الفلسطينية والعربية، نسعى إلى تحويل التحوّلات الدولية الجارية إلى فرصة لكسر الهيمنة الصهيونية–الأميركية، عبر بناء شبكات ضغط وتحالفات سياسية وشعبية تعيد وضع الاحتلال في موقعه الحقيقي كقوة استعمارية معزولة".
وبشأن صمود المجتمع الفلسطيني، يقول الرفيق: "أما داخليًا، فإن الدفاع عن المجتمع الفلسطيني وصموده، بمعناه المادي والمعنوي، هو جزء أصيل من المقاومة ذاتها. يشمل ذلك حماية الناس من التهجير، ودعم مقومات الحياة، ومواجهة الإبادة والتجويع، وتفعيل الثقافة الثورية باعتبارها خط الدفاع الأول عن الوعي الجمعي".
ويوضح عبد العال، أنّه "بهذه الرؤية الشاملة، نؤكد أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على المعنى، والبرنامج، والقدرة على تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع تحرّر وطني يمتلك وضوح الهدف وفعالية الأدوات".
الشباب في قلب المعركة: تجديد الدماء وبناء قيادات جديدة
وبخصوص تعزيز مشاركة الشباب الفلسطيني وإعداد قيادات جديدة في المرحلة القادمة، يؤكد عضو المكتب السياسي للشعبية، أنّ الجبهة خطت مؤخرًا خطوة نوعية نحو تجديد دمائها عبر إعادة إطلاق الإطار الشبابي لها، بعد أن حالت الظروف دون تحقيق فعل منظم ومدروس في السابق، مبينًا أنّ البداية كانت بتشكيل اللجنة التحضيرية المركزية لمنظمة الشبيبة الفلسطينية، بوصفها الحاضنة التي ستنتج الكوادر الشبابية القادمة.
ويوضح عبد العال أن هذه المنظمة ليست ذراعًا تنظيمياً إضافياً، بل رديفًا شبابياً يعيد وصل الجبهة بالجيل الذي يصنع اليوم إيقاع الشارع الفلسطيني، ويضخّ فيها طاقات جديدة تُترجم في الميدان والعمل الجماهيري والفكري. ومن خلال هذا الإطار، تعمل الجبهة على بناء مدرسة نضالية حديثة، تُدرّب الشباب على التنظيم والفكر الثوري، وأساليب العمل، وثقافة المبادرة، وتتيح لهم المشاركة في صنع القرار وتحمل المسؤوليات، لا مجرد تنفيذها.
ويشير إلى أنّ جوهر الرهان هو أن تتحوّل منظمة الشبيبة إلى فضاء يفرز قيادات جديدة قادرة على قراءة التحوّلات، وإعادة صياغة أدوات النضال بما يناسب واقع الجيل وتجربته، بحيث يصبح الشباب ليس فقط قاعدة اجتماعية للجبهة، بل أحد أعمدتها القيادية في المرحلة المقبلة.
مشاريع التصفية والتطبيع: حلقات في مشروع استعماري واحد
وحول مشاريع التصفية السياسية ومحاولات التطبيع، يرى الرفيق عبد العال، أنّها ليست مبادرات منفصلة، بل حلقات في مشروع استعماري يسعى إلى انتزاع فلسطين من معناها التاريخي وتحويلها إلى “قضية مُدارة” خارج سياق التحرّر، كما أنّ جوهر هذه المشاريع يقوم على شطب الفلسطيني كفاعل سياسي وتجريده من أهليته في تحديد مصيره، عبر إغراقه في هندسة أمنية واقتصادية تُبقي الاحتلال وتلغي الصراع.
ويلفت إلى أنّ "الحرب الوحشية التي شنت على شعبنا وفي القطاع الحبيب، استخدمت فيها كل أدوات القتل والمحو والابادة والتطهير لإزالة الفلسطيني من المعادلة، ولكن إرادة شعبنا أسقطت هذا المنطق، وأعادت الفلسطيني إلى قلب المعادلة الإقليمية، بوصفه القوة القادرة على تعطيل أي هندسة سياسية تُبنى فوق حقوقه".
ويبين القيادي أنّه "انطلاقاً من هذا التشخيص، تتعامل الجبهة مع مشروع التطبيع كمنظومة هيمنة استعمارية لا كخيار سياسي فقط، وتعتبر مواجهته جزءاً من الاشتباك مع البنية الاستعمارية نفسها. لذلك تركز عملياً على تثبيت مركزية المقاومة بكل اشكالها لمنع تثبيت وقائع التصفية، وعلى إعادة بناء الكتلة الفلسطينية الموحَّدة حول برنامج تحرّري يُعيد صياغة وظيفة المؤسسات والأطر الوطنية لتصبح أداة صراع لا ملحقاً لاتفاقات مفروضة".
"كما تعمل على توسيع جبهة الرفض العربي والأممي المقاومة للتطبيع عبر خلق وقائع شعبية وسياسية تُحرج الأنظمة وتكشف تواطؤها، وتعيد الذراع الأخلاقي للقضية الفلسطينية إلى مكانته كعنصر قوّة يقيّد الحركة السياسية للكيان. وبهذه الرؤية، تؤكد الجبهة أن إسقاط مشاريع التصفية لا يتحقق بالاعتراض الخطابي، بل بخلق ميزان قوى جديد يفرض على المنطقة والعالم الاعتراف بأن فلسطين ليست ملفاً تفاوضياً، بل بؤرة صراع تاريخي لا يُحسم إلا بزوال المشروع الاستعماري نفسه"، بحسب عبد العال.
اتفاق غزة: هدنة تكتيكية لا تحوّلًا استراتيجيًا
وتعقيبًا على اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، يقول عضو المكتب السياسي، إنّه "ليس حدثًا منفصلًا عن سياق الصراع، بل محطة فرضها الاحتلال، سعى إليها الرئيس الأمريكي ترامب كمبادرة سياسية قابلة للاستثمار لتحقيق مكاسب بوسائل أخرى. فالعدو لجأ إلى الاتفاق تحت وطأة سقوط سرديته أمام العالم، والضغط الدولي، وعزلته، وتصدّع جبهته الداخلية، وليس نتيجة تغيّر في جوهر مشروعه الاستعماري. وهذا يجعل أي تهدئة غير قادرة بذاتها على وقف مسار الإبادة أو فتح أفق سياسي حقيقي لصالح الشعب الفلسطيني".
ويضيف عبد العال: "من هذا المنطلق، ترى الجبهة أن الاتفاق يمكن أن يشكّل فرصة لإيقاف الإبادة، والتقاط الأنفاس، وحماية شعبنا من استمرار عجلة القتل، والحفاظ على المجتمع الفلسطيني في القطاع من التطهير والتهجير وفرض وقائع التجزئة عليه. لكن هذا لا يشكّل تحوّلًا استراتيجيًا، ولا يمكن التعويل عليه كمسار طويل. قيمته تُقاس بقدرته على تثبيت صمود الناس، واستعادة بعض القدرة على التنظيم والحماية والإدارة، ومنع الفوضى والاستغلال والفساد".
وتابع: "الرهان على تحويل الاتفاق إلى فتح أفق سياسي شامل، أو مدخل لإعادة الإعمار وفتح المعابر دون قيد أو شرط، هو رهان خاطئ، فالعدو يسعى من خلاله لتكريس إدارة الصراع من المدخل الإنساني. نحن نقرأ الاتفاق على أنه استراحة مشروطة في معركة طويلة، وليس تحويلًا جذريًا لمسار الصراع. والمعيار الحقيقي هو قدرة الفلسطينيين على تحويل الوقت الممنوح إلى قوة إضافية، ومنع الاحتلال من استخدام التهدئة لتثبيت وقائع جديدة".
ووفق القيادي، فإنّ الجبهة تنظر إلى اتفاق غزة الأخير باعتباره "هدنة تكتيكية قد تفرضها موازين الصراع، لكنها تتحوّل إلى عبء خطير إذا جرى استخدامها كمدخل لترتيبات خارجية أو وصاية دولية على القطاع"، مشيراً إلى أنّ "الجبهة تطرح بوضوح "تشكيل لجنة إدارة وطنية مهنية مؤقتة في غزة، تضم شخصيات نزيهة من أبناء القطاع، تتولى إدارة المرحلة الانتقالية بمرجعية فلسطينية كاملة، وبالتنسيق مع المؤسسات الوطنية الفلسطينية، لمنع فرض أي بدائل أو صيغ حكم من الخارج".
ويشدّد عبد العال على رفض الجبهة القاطع "لكل محاولات تثبيت التفسير الإسرائيلي لقرار مجلس الأمن الدولي 2803، ولا سيما المساعي الرامية إلى ترسيم ما يُسمّى بالخط الأصفر كفاصل دائم، وابتداع ما يُعرف بـ(المنطقة الخضراء) كمجال يبقى تحت السيطرة، بما يكرّس وقائع جديدة على الأرض، مؤكدًا أنّ "أي وجود دولي محتمل يجب أن يكون عربيًا–إسلاميًا، وأن يقتصر انتشاره على خطوط التماس فقط، في حين يتولى جهاز الشرطة الفلسطينية إدارة الأمن داخل المدن، باعتباره شأناً سيادياً وطنياً لا يقبل التفويض أو المصادرة".
ويؤكد أن "سلاح المقاومة هو ملف سياسي وطني بامتياز، لا يخضع لشروط الاحتلال، ولا يُطرح للنقاش إلا ضمن إطار توافق فلسطيني شامل، يحفظ مشروع التحرّر الوطني ويصون وحدة شعبنا وقواه الحيّة".
ذكرى الانطلاقة: الأمل صمام المقاومة واستراتيجية المستقبل
ويلفت الرفيق عبد العال، إلى أنّ ذكرى انطلاقة الجبهة ليست مجرد استعادة للتاريخ، بل رسالة للأجيال القادمة: "فلسطين باقية، وحريتها لن تُمنح، بل تُنتزع وتصنع بصبر وتضحيات وصمود شعبنا، ووحدته، وعمله، وأمله. فلتكن هذه الروح شعلة تنير الطريق نحو فلسطين الحرة والصامدة، والمستقبل الذي نستحقه جميعًا".
وتابع ضيف "الهدف": "ندرك أن الإمساك بالمستقبل يبدأ بالإمساك بالأمل. الأمل ليس شعورًا عابرًا، بل استراتيجية وجودية وفعلية تجعل من الصمود قوة، ومن المعاناة أرضًا خصبة للبناء، ومن التضحيات الفردية والجماعية عناصر صلبة في مسار التحرّر الطويل".
ويشير عبد العال إلى ما ذكره الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: "نحن بحاجة إلى تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة"، مؤكدًا أنّ الواقع يجب أن يُرى كما هو بكل مأساويته وتعقيداته، لا أن نغلق أعيننا عنه أو نحيله إلى وهم.
ويوضح أنّ "الأمل المطلوب ليس مخدرًا يخفف الألم، بل أداة فاعلة للفعل والتحرّر؛ فلا يمكن أن يتحقق إلا إذا ارتبط بفهم دقيق للواقع وبقدرتنا على تغييره. أمل بلا أساس في الواقع يتحوّل إلى خرافة، وأمل مرتبط بالواقع يصبح استراتيجية للبقاء والعمل والنضال".
ويختم عبد العال حديثه بالقول: "نحن نمتلك الأمل دائمًا، سواء تحقق أم لم يتحقق، لكن انفصاله عن الواقع يفرغه من جوهره، ويحوّله إلى وهم لا يولّد إلا الضعف واليأس. من هنا، يصبح التفاؤل الثوري وعيًا عمليًا يجمع بين إدراك الصعاب وإصرار الإرادة على تحويلها إلى قوة حقيقية قادرة على صناعة المستقبل".
أحمد زقوت
في ذكرى انطلاقتها الثامنة والخمسين، وفي لحظة فلسطينية هي الأكثر دموية وتعقيدًا منذ عقود، تعود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى واجهة النقاش الوطني بوصفها تيارًا ثوريًا لم يفصل يومًا بين المقاومة والسياسة، ولا بين التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية.
في ظل حرب إبادة مفتوحة على قطاع غزة، وانسداد الأفق السياسي، واستمرار الانقسام، وتهافت مشاريع التصفية والتطبيع، يقدّم عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية الرفيق مروان عبد العال قراءة شاملة لمسار الجبهة وتجربتها النضالية، ويضع تصورًا واضحًا للمرحلة المقبلة، من موقع المقاومة الشاملة، ووحدة الهدف، وتجديد أدوات الفعل الثوري.
في هذه المقابلة مع "بوابة الهدف"، يتوقف عبد العال عند دروس 58 عامًا من الكفاح، ويقيّم اتفاق غزة الأخير، ويحدّد أولويات المواجهة السياسية والميدانية، ودور الشباب، ومخاطر التطبيع، وشروط أي تفاهمات قادمة، موجّهًا رسالة واضحة إلى الشعب الفلسطيني والأجيال القادمة: أن فلسطين لا تُدار ولا تُصفّى، بل تُحرَّر بإرادة شعبها، وبوضوح برنامجها، وبوعيٍ يحمي المعنى قبل الأرض.
58 عامًا من الصمود والثبات
ويؤكد عبد العال، أنّه على امتداد ثمانية وخمسين عامًا، حافظت الجبهة الشعبية على موقعها كتيار ثوري واضح، يربط بين التحرّر الوطني والعدالة الاجتماعية، ويقاوم كل أشكال التسوية الانتقاصية، كما واجهت الجبهة خلال هذه السنوات تحديات كبرى، شملت الحصار السياسي، والانقسام الداخلي الفلسطيني، وتبدّل موازين القوى الإقليمية، وتصاعد الهجمة الاستعمارية–الفاشية على غزة والضفة والمنطقة عمومًا، ولا سيما استهداف ركائز جبهة المقاومة على المستوى الإقليمي.
وبين عبد العال، أنّه برغم هذه الصعوبات، نجحت الجبهة في الحفاظ على حضورها الكفاحي والميداني والاجتماعي والسياسي والإعلامي والثقافي، مع الحفاظ على خطها الفكري والنضالي بالمعنى الثوري، لتظل عنوانًا للثبات في زمن التراجعات.
ويشير ضيف "الهدف"، أنّ التجربة تؤكد أنّ المقاومة ليست فعلًا أحاديًا، بل مشروعًا شاملًا يحتاج إلى حشد كل الطاقات الشعبية والحزبية في مختلف تجمعات شعبنا وعلى امتداد ساحات الصراع، كما أنّ قوة المقاومة تكمن في قدرتها على إطلاق الفعل على أوسع نطاق، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فاعليتها تُقاس بمدى استنادها إلى بنية مجتمعية وثقافية وسياسية متماسكة، ما يستدعي تعزيزها باستمرار، باعتبار أن المقاومة الشاملة مركزية للعمل الثوري.
ويستكمل القيادي في الجبهة، أنّ "التجربة أكدت الحاجة الدائمة إلى ضخ دماء جديدة، وتطوير أدوات التنظيم والعمل الجماهيري والنقابي والشبابي، فيما أظهرت كذلك أنّ الأساس في أي مشروع تحرّر وطني هو "وحدة الهدف قبل وحدة الفصائل"، فالاستراتيجية الفلسطينية يجب أن تُبنى انطلاقًا من هذا الهدف الجامع: التحرّر الكامل، على أن تأتي البنية التنظيمية كأداة لتحقيقه، لا كغاية بحد ذاتها.
ويبين عبد العال، أنّه "لا شك أن الواقع الإقليمي يثبت أن فلسطين لا تُحرَّر بمعزل عن محيطها، بل ضمن عملية ثورية تاريخية تشمل المنطقة، ما يتطلب إعادة بناء جبهة دعم عربية وشعبية، باعتبارها شرط القوة، كما أنّ الوعي، في هذا السياق، يشكّل خط الدفاع الأول، وخسارته أخطر من خسارة الأرض، وهو ما يجعل إعادة الاعتبار للثقافة وإرث المؤسسين ضرورة استراتيجية وليست ترفًا".
ويشدد عضو المكتب السياسي، على أنّ الجبهة الشعبية تقدّم نموذجًا للاستمرار والعطاء والفداء رغم الصعوبات، مع القدرة على مراجعة الذات دون التفريط بالثوابت. والدرس الأكبر للمرحلة المقبلة هو أن المقاومة تحتاج إلى مزید من الوضوح، والتنظيم، والوعي، وهي ثلاثية لا تزال الجبهة تمتلك عناصر قوتها.
لحظة غزة والانقسام: إعادة تعريف الأولويات الوطنية
وبشأن استمرار العدوان والانقسام، يقول الرفيق عبد العال، إنّ "لحظة غزة عرّت الكثير من القوى السياسية؛ فبعضها قاتل حتى النهاية، وبعضها جمّد نفسه داخل حساباته القديمة، فيما اكتفى آخرون بالتصريحات الشكلية التي لم يكن لها أي أثر على الأرض"، مضيفًا أنّ "منظمة التحرير، بوصفها الإطار المفترض لحمل المشروع الوطني، فقد بدت عاجزة عن استعادة دورها التاريخي، واكتفت بموقع رمزي بلا قدرة فعلية على التأثير أو التعبئة، وكذلك انكشفت حدود السلطة الفلسطينية، التي باتت وظيفتها الأمنية والإدارية لا تتجاوز إدارة اليومي تحت الاحتلال، من دون أي قدرة على صياغة خيارات حقيقية للتحرّر".
ويؤكد القيادي، أنّ "الأولوية بالنسبة للجبهة الشعبية، في ظل تداعيات العدوان المستمر على واقعنا الفلسطيني، هي صياغة معادلة متكاملة لحماية القضية الفلسطينية، تقوم على تعزيز المقاومة الشاملة وإعادة تعريف وظيفة الحركة الوطنية، فالمواجهة الحالية أثبتت أن المقاومة في قلب المعادلة، لكن السؤال المركزي هو: كيف تكون في قلب الصراع، وكيف يتكامل دورها في إدارة الاشتباك، وإدامته، وتوسيع دائرته، وتحصين حاضنته الشعبية؟".
وتابع: "ندرك أن تحويل الانقسام إلى أداة لتبديد القوة الوطنية، وتحويل مؤسسات الشعب إلى جزر معزولة، يخدم أهداف العدو الساعي إلى تمزيق الكيانية الفلسطينية سياسيًا وجغرافيًا. ولذلك، فإن إعادة بناء الوحدة الوطنية على أساس برنامج تحرري واضح تشكّل مطلبًا ملحًا، باعتبار أن وحدة الهدف هي الشرط الضروري. ومن هنا، يصبح دور الجبهة العمل على بلورة رؤية مشتركة تعيد صياغة وظيفة الفصائل والسلطة والمؤسسات، بحيث تتكامل جميعها ضمن استراتيجية واحدة للمقاومة والتحرّر".
المعركة على المعنى قبل الأرض
وعن البعد الإقليمي والدولي، يؤكد عبد العال، أنّه "من موقعنا اليساري وتحالفاتنا الأممية، وحضورنا في الجاليات الفلسطينية والعربية، نسعى إلى تحويل التحوّلات الدولية الجارية إلى فرصة لكسر الهيمنة الصهيونية–الأميركية، عبر بناء شبكات ضغط وتحالفات سياسية وشعبية تعيد وضع الاحتلال في موقعه الحقيقي كقوة استعمارية معزولة".
وبشأن صمود المجتمع الفلسطيني، يقول الرفيق: "أما داخليًا، فإن الدفاع عن المجتمع الفلسطيني وصموده، بمعناه المادي والمعنوي، هو جزء أصيل من المقاومة ذاتها. يشمل ذلك حماية الناس من التهجير، ودعم مقومات الحياة، ومواجهة الإبادة والتجويع، وتفعيل الثقافة الثورية باعتبارها خط الدفاع الأول عن الوعي الجمعي".
ويوضح عبد العال، أنّه "بهذه الرؤية الشاملة، نؤكد أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على المعنى، والبرنامج، والقدرة على تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع تحرّر وطني يمتلك وضوح الهدف وفعالية الأدوات".
الشباب في قلب المعركة: تجديد الدماء وبناء قيادات جديدة
وبخصوص تعزيز مشاركة الشباب الفلسطيني وإعداد قيادات جديدة في المرحلة القادمة، يؤكد عضو المكتب السياسي للشعبية، أنّ الجبهة خطت مؤخرًا خطوة نوعية نحو تجديد دمائها عبر إعادة إطلاق الإطار الشبابي لها، بعد أن حالت الظروف دون تحقيق فعل منظم ومدروس في السابق، مبينًا أنّ البداية كانت بتشكيل اللجنة التحضيرية المركزية لمنظمة الشبيبة الفلسطينية، بوصفها الحاضنة التي ستنتج الكوادر الشبابية القادمة.
ويوضح عبد العال أن هذه المنظمة ليست ذراعًا تنظيمياً إضافياً، بل رديفًا شبابياً يعيد وصل الجبهة بالجيل الذي يصنع اليوم إيقاع الشارع الفلسطيني، ويضخّ فيها طاقات جديدة تُترجم في الميدان والعمل الجماهيري والفكري. ومن خلال هذا الإطار، تعمل الجبهة على بناء مدرسة نضالية حديثة، تُدرّب الشباب على التنظيم والفكر الثوري، وأساليب العمل، وثقافة المبادرة، وتتيح لهم المشاركة في صنع القرار وتحمل المسؤوليات، لا مجرد تنفيذها.
ويشير إلى أنّ جوهر الرهان هو أن تتحوّل منظمة الشبيبة إلى فضاء يفرز قيادات جديدة قادرة على قراءة التحوّلات، وإعادة صياغة أدوات النضال بما يناسب واقع الجيل وتجربته، بحيث يصبح الشباب ليس فقط قاعدة اجتماعية للجبهة، بل أحد أعمدتها القيادية في المرحلة المقبلة.
مشاريع التصفية والتطبيع: حلقات في مشروع استعماري واحد
وحول مشاريع التصفية السياسية ومحاولات التطبيع، يرى الرفيق عبد العال، أنّها ليست مبادرات منفصلة، بل حلقات في مشروع استعماري يسعى إلى انتزاع فلسطين من معناها التاريخي وتحويلها إلى “قضية مُدارة” خارج سياق التحرّر، كما أنّ جوهر هذه المشاريع يقوم على شطب الفلسطيني كفاعل سياسي وتجريده من أهليته في تحديد مصيره، عبر إغراقه في هندسة أمنية واقتصادية تُبقي الاحتلال وتلغي الصراع.
ويلفت إلى أنّ "الحرب الوحشية التي شنت على شعبنا وفي القطاع الحبيب، استخدمت فيها كل أدوات القتل والمحو والابادة والتطهير لإزالة الفلسطيني من المعادلة، ولكن إرادة شعبنا أسقطت هذا المنطق، وأعادت الفلسطيني إلى قلب المعادلة الإقليمية، بوصفه القوة القادرة على تعطيل أي هندسة سياسية تُبنى فوق حقوقه".
ويبين القيادي أنّه "انطلاقاً من هذا التشخيص، تتعامل الجبهة مع مشروع التطبيع كمنظومة هيمنة استعمارية لا كخيار سياسي فقط، وتعتبر مواجهته جزءاً من الاشتباك مع البنية الاستعمارية نفسها. لذلك تركز عملياً على تثبيت مركزية المقاومة بكل اشكالها لمنع تثبيت وقائع التصفية، وعلى إعادة بناء الكتلة الفلسطينية الموحَّدة حول برنامج تحرّري يُعيد صياغة وظيفة المؤسسات والأطر الوطنية لتصبح أداة صراع لا ملحقاً لاتفاقات مفروضة".
"كما تعمل على توسيع جبهة الرفض العربي والأممي المقاومة للتطبيع عبر خلق وقائع شعبية وسياسية تُحرج الأنظمة وتكشف تواطؤها، وتعيد الذراع الأخلاقي للقضية الفلسطينية إلى مكانته كعنصر قوّة يقيّد الحركة السياسية للكيان. وبهذه الرؤية، تؤكد الجبهة أن إسقاط مشاريع التصفية لا يتحقق بالاعتراض الخطابي، بل بخلق ميزان قوى جديد يفرض على المنطقة والعالم الاعتراف بأن فلسطين ليست ملفاً تفاوضياً، بل بؤرة صراع تاريخي لا يُحسم إلا بزوال المشروع الاستعماري نفسه"، بحسب عبد العال.
اتفاق غزة: هدنة تكتيكية لا تحوّلًا استراتيجيًا
وتعقيبًا على اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، يقول عضو المكتب السياسي، إنّه "ليس حدثًا منفصلًا عن سياق الصراع، بل محطة فرضها الاحتلال، سعى إليها الرئيس الأمريكي ترامب كمبادرة سياسية قابلة للاستثمار لتحقيق مكاسب بوسائل أخرى. فالعدو لجأ إلى الاتفاق تحت وطأة سقوط سرديته أمام العالم، والضغط الدولي، وعزلته، وتصدّع جبهته الداخلية، وليس نتيجة تغيّر في جوهر مشروعه الاستعماري. وهذا يجعل أي تهدئة غير قادرة بذاتها على وقف مسار الإبادة أو فتح أفق سياسي حقيقي لصالح الشعب الفلسطيني".
ويضيف عبد العال: "من هذا المنطلق، ترى الجبهة أن الاتفاق يمكن أن يشكّل فرصة لإيقاف الإبادة، والتقاط الأنفاس، وحماية شعبنا من استمرار عجلة القتل، والحفاظ على المجتمع الفلسطيني في القطاع من التطهير والتهجير وفرض وقائع التجزئة عليه. لكن هذا لا يشكّل تحوّلًا استراتيجيًا، ولا يمكن التعويل عليه كمسار طويل. قيمته تُقاس بقدرته على تثبيت صمود الناس، واستعادة بعض القدرة على التنظيم والحماية والإدارة، ومنع الفوضى والاستغلال والفساد".
وتابع: "الرهان على تحويل الاتفاق إلى فتح أفق سياسي شامل، أو مدخل لإعادة الإعمار وفتح المعابر دون قيد أو شرط، هو رهان خاطئ، فالعدو يسعى من خلاله لتكريس إدارة الصراع من المدخل الإنساني. نحن نقرأ الاتفاق على أنه استراحة مشروطة في معركة طويلة، وليس تحويلًا جذريًا لمسار الصراع. والمعيار الحقيقي هو قدرة الفلسطينيين على تحويل الوقت الممنوح إلى قوة إضافية، ومنع الاحتلال من استخدام التهدئة لتثبيت وقائع جديدة".
ووفق القيادي، فإنّ الجبهة تنظر إلى اتفاق غزة الأخير باعتباره "هدنة تكتيكية قد تفرضها موازين الصراع، لكنها تتحوّل إلى عبء خطير إذا جرى استخدامها كمدخل لترتيبات خارجية أو وصاية دولية على القطاع"، مشيراً إلى أنّ "الجبهة تطرح بوضوح "تشكيل لجنة إدارة وطنية مهنية مؤقتة في غزة، تضم شخصيات نزيهة من أبناء القطاع، تتولى إدارة المرحلة الانتقالية بمرجعية فلسطينية كاملة، وبالتنسيق مع المؤسسات الوطنية الفلسطينية، لمنع فرض أي بدائل أو صيغ حكم من الخارج".
ويشدّد عبد العال على رفض الجبهة القاطع "لكل محاولات تثبيت التفسير الإسرائيلي لقرار مجلس الأمن الدولي 2803، ولا سيما المساعي الرامية إلى ترسيم ما يُسمّى بالخط الأصفر كفاصل دائم، وابتداع ما يُعرف بـ(المنطقة الخضراء) كمجال يبقى تحت السيطرة، بما يكرّس وقائع جديدة على الأرض، مؤكدًا أنّ "أي وجود دولي محتمل يجب أن يكون عربيًا–إسلاميًا، وأن يقتصر انتشاره على خطوط التماس فقط، في حين يتولى جهاز الشرطة الفلسطينية إدارة الأمن داخل المدن، باعتباره شأناً سيادياً وطنياً لا يقبل التفويض أو المصادرة".
ويؤكد أن "سلاح المقاومة هو ملف سياسي وطني بامتياز، لا يخضع لشروط الاحتلال، ولا يُطرح للنقاش إلا ضمن إطار توافق فلسطيني شامل، يحفظ مشروع التحرّر الوطني ويصون وحدة شعبنا وقواه الحيّة".
ذكرى الانطلاقة: الأمل صمام المقاومة واستراتيجية المستقبل
ويلفت الرفيق عبد العال، إلى أنّ ذكرى انطلاقة الجبهة ليست مجرد استعادة للتاريخ، بل رسالة للأجيال القادمة: "فلسطين باقية، وحريتها لن تُمنح، بل تُنتزع وتصنع بصبر وتضحيات وصمود شعبنا، ووحدته، وعمله، وأمله. فلتكن هذه الروح شعلة تنير الطريق نحو فلسطين الحرة والصامدة، والمستقبل الذي نستحقه جميعًا".
وتابع ضيف "الهدف": "ندرك أن الإمساك بالمستقبل يبدأ بالإمساك بالأمل. الأمل ليس شعورًا عابرًا، بل استراتيجية وجودية وفعلية تجعل من الصمود قوة، ومن المعاناة أرضًا خصبة للبناء، ومن التضحيات الفردية والجماعية عناصر صلبة في مسار التحرّر الطويل".
ويشير عبد العال إلى ما ذكره الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: "نحن بحاجة إلى تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة"، مؤكدًا أنّ الواقع يجب أن يُرى كما هو بكل مأساويته وتعقيداته، لا أن نغلق أعيننا عنه أو نحيله إلى وهم.
ويوضح أنّ "الأمل المطلوب ليس مخدرًا يخفف الألم، بل أداة فاعلة للفعل والتحرّر؛ فلا يمكن أن يتحقق إلا إذا ارتبط بفهم دقيق للواقع وبقدرتنا على تغييره. أمل بلا أساس في الواقع يتحوّل إلى خرافة، وأمل مرتبط بالواقع يصبح استراتيجية للبقاء والعمل والنضال".
ويختم عبد العال حديثه بالقول: "نحن نمتلك الأمل دائمًا، سواء تحقق أم لم يتحقق، لكن انفصاله عن الواقع يفرغه من جوهره، ويحوّله إلى وهم لا يولّد إلا الضعف واليأس. من هنا، يصبح التفاؤل الثوري وعيًا عمليًا يجمع بين إدراك الصعاب وإصرار الإرادة على تحويلها إلى قوة حقيقية قادرة على صناعة المستقبل".













Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire