"فجل يا كلاب"

 




ضحى شمس

في التقارير العسكرية الإسرائيلية التي كان جيش العدو يصدرها في أثناء حرب إسناد غزّة التي خاضها لبنان ضدّ الكيان، أو في الحرب المباشرة التي شنّتها لاحقاً إسرائيل علينا، كان هناك حرص ظاهر للتعتيم والتقليل من عدد القتلى والجرحى الصهاينة، وهذا "طبيعي" في أوقات مثل تلك، لولا أنّه كانت هناك عبارات لافتة، لا أعرف إن كان استخدمها أحد قبل ذلك في الحروب، أقصد تلك الإشارة إلى "إصابات بالهلع" بين المستوطنين، أو في حدّ أقصى سقوط جرحى "بسبب التدافع" لدى الهروب للاحتماء بالملاجئ.

كانت إسرائيل تقول لنا في هذا النوع من الصياغة البروباغندية، إنّ صواريخنا لا فائدة منها، عكس ما هو حاصل فعلاً، وإنّ لديها ملاجئ لحماية مستوطنيها عكسنا، وهذا صحيح. أمّا الأمر الثالث والأهم، فهو بالنسبة إليها أن "الإصابات بالهلع" بين سكانها، جديرة بأن تُذكر في تقرير الخسائر، خاصة أنّها تدّعي أنْ لا خسائر بشرية لديها لولا تلك الإصابات بالهلع. في حين أنّنا كنّا في الوقت ذاته، خاصة في تقارير غزّة، نحصي بالمئات أعداد الشهداء والجرحى والأسرى يومياً، محاولين استنهاض الفعل والتعاطف الدوليين بإيرادنا، عن حقٍّ، أنّ معظم الشهداء كانوا "من الأطفال والمسنين والنساء والرضّع".  

بالطبع، كانت كل وسائل الإعلام الإسرائيلية تنقل تلك الصياغة حرفياً عن تقارير "الإعلام العسكري". وهذه الصفة الأخيرة، أي العسكري، كان بالإمكان إسباغها بسهولة على كلّ وسيلة إعلامية إسرائيلية خلال هذه الحرب التي بدأت في الثامن من أكتوبر الشهير، وما زالت دائرة حتى اليوم، ولو بإيقاع إبادي أبطأ. 

كانت تلك "الإصابات بالهلع" و"الجرحى بسبب التدافع" حين كانت صواريخنا تنهال على كلّ مكان تطاوله في فلسطين المحتلة، تُصيبني، رغم الظروف، بالضحك، لكنه لم يكن ضحكاً صافياً من القلب، بل كان مزيجاً من الاشمئزاز والسخرية من هذه التعابير التي تنم عن نوعٍ سخيف من العجرفة، ممزوجاً بتسوّل التعاطف، وهو كوكتيل غريب لا يمكن إلّا للإسرائيليين اختراعه واستهلاكه. 

فقيادة هذا الكيان التي أظهرت بهيمية أخلاقية وتوحّشاً عنصرياً، والتي كانت تحرص على إنكار الخسائر أمام جمهورها الذي بات أغلبه، وبشهادة إسرائيليين، أشدّ عنصرية، كانت بتبنيها هذا النوع من العبارات معطوفة على ممارساتها الإجرامية لسنتين وأكثر تحاول أن تقول إنّ إصابة إسرائيلي واحد بالهلع، لهو أهمّ بكثير، أو يساوي في أحسن الأحوال، استشهاد المئات من الفلسطينيين أو اللبنانيين من المدنيين، أي إنّ خسائرنا بكلّ أرقامها المهولة، تكاد تتساوى، مع خسائرهم، كونها "خسائر نوعية" لأنّ ضحاياها هم من الإسرائيليين اليهود، الصهاينة. 

سلوك من الغرور والاحتقار للحياة الإنسانية، من دون أن يغفلوا في الوقت ذاته، ضرورة تسوّل تعاطف الرأي العام العالمي الذي اعتادوا الفوز به منذ الهولوكوست، لكنهم لم يعودوا يتمتّعون به تلقائياً بفضل آلام غزّة، والوعي الجديد لصورتهم الحقيقية التي نقلتها الشاشات ووسائل الإعلام البديلة.

لقد كانوا في عجرفتهم تلك معطوفة على حاجتهم الشديدة إلى تعاطف الرأي العام الدولي، أشبه بذلك الباشا في النكتة المصرية التي انتشرت عقب قيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتطبيق سياسة الإصلاح الزراعي في الخمسينيات. فلقد انتزعت تلك السياسة من الباشوات الإقطاعيين، قسماً من الأراضي الشاسعة التي كانوا يمتلكونها ووُزِّعت على الفلاحين المصريين. 

تروي النكتة أنّ ذلك الباشا الذي "حطّ به الزمن"، اضطر بعد أن أصبح فقيراً إلى بيع الفجل على عربة مُتنقّلة في الشارع، لكنه لم يتخل عن عجرفته وتعاليه واحتقاره لبقية "الشعب"، فكان يتجوّل بعربته نافخاً صدره وهو ينادي على بضاعته صائحاً: "فجل يا كلاب"!

هذا بالضبط لسان حال الإسرائيليين اليوم. فنحن نراهم جنوداً ومستوطنين ورأياً عاماً صامتاً في أحسن الأحوال عن إبادة تحدث أمام عينيه منذ أكثر من سنتين، يقتلون ويشمتون ويتفنّنون في تعذيب المدنيين وسحلهم وإطعام جثثهم للكلاب وسرقة أعضاء القتلى والجرحى، إلا أنهم يشتكون للعالم "إصاباتهم بالهلع"! 

أليس هذا اختلالاً نفسياً؟ 

هذا من ناحية الإسرائيليين. أمّا الأخطر، فهو تبني وسائل إعلام عربية، كي لا نلوم الأجنبية وحدها، لصياغات خبرية تروّج في جوهرها هذا المعنى المُفخّخ. فعلى امتداد أكثر من سنتين، تبنّت وسائل إعلام أُحبّ أن أسميها صحافة "ومن جهة أخرى"، أي تلك التي تتبنّى ميكانيكياً صياغة سطحية لمبدأ "الرأي والرأي الآخر"، قوامها محاولة المساواة بين الأطراف في خبر لا يمكن أن يكون فيه حياد. فتقوم بإيراد الأعداد المهولة للشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى ومن دُفنوا تحت أنقاض بيوتهم من الفلسطينيين، ثم تضيف بخفّة أنّه "ومن جهة أخرى"، فقد "كشفت تقارير رسمية إسرائيلية عن تزايد عدد المصابين بالاضطرابات النفسية بين الجنود، وهي إصابات تراوح بين الاكتئاب والميول الانتحارية، وصولًا إلى اضطراب ما بعد الصدمة، وهي أعراض تحتاج إلى وقت طويل للعلاج".

كأنما الاضطرابات النفسية الجديرة بالذكر هي تلك التي تُصيب الجلاد، وليس الضحية. فالضحية لم تعد لديها أيّة اضطرابات نفسية كونها قد.. قُتلت. لكن، يا للهول! لقد أصيبَ هؤلاء الجنود، في أثناء ذبحهم وسحلهم للفلسطينيين وقتلهم للرضّع والأمهات، خلال تجويعهم شعباً أعزل وقصفهم للخيم الرقيقة بالصواريخ، بالصدمات، وباتوا يميلون إلى الانتحار، وكثيرون بينهم يعانون اختلالات نفسية. أصلًا لو لم يكونوا مُختلين، هل كانوا ليرتكبوا كلّ ذلك؟ 

وماذا عن الاضطرابات النفسية للناجين، حتى الآن، من الإبادة الجارية؟ وهل هم ناجون حقاً بهذا المعنى؟ ماذا عن أجيال من الأطفال الذين سيكبرون، لو كبروا، من دون أيّ قريب من عائلاتهم؟ ماذا عن اضطراب ما بعد الصدمة لجيل أو جيلين من صغار الجرحى الذين باتوا بشكل ما معوقين وأيتاماً ومن دون مأوى أو معيل؟ هل يمكن اعتبارهم حقّاً ناجين؟ 

لو كان للمختلين نفسياً رائحة، لكانت رائحة إسرائيل، كما وجودها بيننا، لا تُطاق. 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire