الانعزالية في أسوأ أشكالها

 

نعم، لا يجد هذا الفريق أي حرج في تبنّي المطالب الإسرائيلية، كما تعبّر عنها تل أبيب أو واشنطن. وهو يعوِّل علناً، على تطوير العدوان الإسرائيلي إلى حرب شاملة ضدّ المقاومة، أملاً في حسم الوضع اللبناني لمصلحته بشكل كامل، مهما كان حجم الخسائر والدمار في لبنان وبين صفوف اللبنانيين. على إيقاع مشروعَي «إسرائيل الكبرى» و«صفقة القرن»، يقدّم الطرف «الانعزالي»، في هذه المرحلة، أسوأ نسخ الانعزالية اللبنانية: مجبولة بالتّبعية والعنصرية والعنف
سعد الله مزرعاني
كاتب وسياسي لبناني

«الانعزالية» هي الصفة التي أُطلقت على فريق لبناني نسج سيرته على أنه منفصل عن بيئته المحلّية ومحيطه العربي، بسبب اختلاف معتقده الديني عن معتقد الأكثرية في تلك البيئة وذلك المحيط. هو اشتقّ، في خدمة ذلك، روايات فرعية وعلاقات وسياسات وتوجّهات توزّعت ما بين التمايز في الانتماء، والتباين في المصالح والخيارات والتقاليد والتطلّعات. في السياق، كانت «الفينيقوية» بادّعاء أرومة خاصة، و«القومية اللبنانية»: هوّية مفتعلة موغلة في القدم والريادة... ثم كانت «الصيغة اللبنانية الفريدة» القائمة على الاختلال و«الامتيازات». الطائفية السياسية باتت عنوان فئوية، وعلّة وجود، وسمة أرجحية وتفوُّق.
منذ مرحلة تدخّل «القناصل»، إلى نظام «القائمقاميتين»، ثم «المتصرفية»، فـ«لبنان الكبير» في كنف الانتداب الفرنسي، فالاستقلال عام 1943، اكتملت الرواية وتعمّق الاختلاف إلى درجة الخلاف، فالأزمة الشاملة (الحرب الأهلية) التي تراكمت عناصرها وتوسّعت مجالاتها وتعاظمت خسائرها، إلى أن حصلت تسوية «الطائف»، كما سابقاتها، كمحطة في الصراع وليس كحلّ نهائي له.
راجت صفة «الانعزالية»، خصوصاً، في حرب 1975-1990. التسلّح ومحاولة استخدام الجيش في النزاع مع الفلسطينيين وفي الداخل اللبناني، أظهرَا نهج الانعزال على المستويين اللبناني والقومي التحرّري. توّج ذلك استدعاء الجيش الإسرائيلي للتدخّل محتلّاً وفارضاً سلطة وغلبة لمصلحة الفريق المذكور الذي لم يتردّد في اعتبار استقوائه بالعدو (وعقد اتفاق معه هو بمثابة صكّ استسلام)، انتصاراً للبنان «السيد المستقلّ»!
تغذّى ذلك النهج من نظرية أنّ «قوة لبنان في ضعفه». هو «ضعف» يتلازم مع تبعية عضوية للخارج (الذي باتت تمثّله واشنطن، منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي)، واعتماد كامل عليه: للاستئثار بالسلطة ولإدامتها!
لكن تطوّرات متسارعة وغير متوقّعة، وخصوصاً نهوض المقاومة اللبنانية وتمكّنها من فرض الانسحاب على العدو الإسرائيلي المحتل مهزوماً، قد غيّرت مجريات الأحداث.
وبدلاً من التخلّي عن المقاربة الفئوية والتحوّل نحو مقاربة وطنية، تمّ الالتحاق أكثر بالقوى الخارجية الاستعمارية. هذا ما حصل بعد إخراج القوات السورية من لبنان عام 2005. ثم، خصوصاً، منذ حرب «طوفان الأقصى»، و«حرب الإسناد» التي انخرطت فيها «المقاومة الإسلامية» تضامناً مع الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الصهيوني الذي ما لبث أن تحوَّل إلى حرب إبادة بمشاركة واشنطن، والغرب الأطلسي وفريق مطبّع وتابع ومستسلم.
أدّت ضراوة ووحشية حرب العدو على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وبالمقابل، الفريق «الانعزالي» اللبناني الممثّل، أيضاً وخصوصاً، بـ«القوات اللبنانية»، كل الآمال على صمود هذا الشعب، مقاومةً ومدنيين، إلى إطالة هذه الحرب إلى أكثر من سنتين. عقد انتصار العدو الصهيوني وداعميه بقيادة واشنطن، على المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. هو وجد أنّ الشروط متوفّرة لتكرار ما حصل عام 1982. حينها وصل بشير الجميل قائد «القوات اللبنانية» الكتائبي، إلى رئاسة الجمهورية على ظهر دبابة إسرائيلية. كذلك الأمر بالنسبة إلى أخيه أمين الجميل، القيادي الكتائبي هو الآخر الذي نُصّب رئيساً بعد اغتيال بشير الذي لم يكن قد تسلّم مهامه بعد.
في نطاق معركة «طوفان الأقصى» و«حرب الإسناد»، خشي ذلك الفريق تنفيذ مطالب إسرائيلية بانخراطه مباشرة في المعركة ضدّ المقاومة اللبنانية. غير أنه نزل بكامل ثقله، السياسي والإعلامي، إلى جانب العدو مراهناً على القوى الفاشية الحاكمة في تل أبيب، بقيادة نتنياهو، وعلى واشنطن، لتحقيق حلم قائده سمير جعجع، بالوصول إلى قصر بعبدا.
العدو تمادى في التصعيد الإجرامي والمجازر والتدمير في غزة وفي لبنان. أعلن رئيس وزرائه القاتل نتنياهو، بوضوح ووقاحة، أنه بصدد وضع المشروع التوراتي «إسرائيل الكبرى» موضع التنفيذ! كان قد قدّم خارطة له، من على منبر الأمم المتحدة، تشمل كل لبنان. ثم أنه بعد «اتفاق وقف الأعمال العدائية» منذ حوالي عام، ورغم استمرار هجمات العدو على لبنان وسقوط حوالي ألف شهيد وجريح وتنفيذ أكثر من 5000 خرق للاتفاق، بحماية ورعاية واشنطن، رغم ذلك وسواه، يواصل التيار الانعزالي إصراره على تبرير ودعم العدوان والمطالبة بتصعيده لاستعادة «السيادة» اللبنانية!
في امتداد ذلك، يحرّض مندوبو جعجع وأمثالهم في واشنطن، على السلطة اللبنانية ممثّلة برئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وقائد الجيش. الأول حُجّم في نيويورك. الثاني، لإدراجه في لوائح المعاقبين. أمّا الثالث، فقد تمّ إلغاء مواعيده في واشنطن، وتم التلويح بإقالته! عبَّر رئيس الجمهورية علناً أمام مجلس نقابة الصحافة، عن ضيقه من حال «الوشاية» التي يمارسها الطرف الأكثر «سيادية» على سلطات بلده!
نعم، لا يجد هذا الفريق أي حرج في تبنّي المطالب الإسرائيلية، كما تعبّر عنها تل أبيب أو واشنطن. وهو يعوِّل علناً، على تطوير العدوان الإسرائيلي إلى حرب شاملة ضدّ المقاومة، أملاً في حسم الوضع اللبناني لمصلحته بشكل كامل، مهما كان حجم الخسائر والدمار في لبنان وبين صفوف اللبنانيين. على إيقاع مشروعَي «إسرائيل الكبرى» و«صفقة القرن»، يقدّم الطرف «الانعزالي»، في هذه المرحلة، أسوأ نسخ الانعزالية اللبنانية: مجبولة بالتّبعية والعنصرية والعنف!
رغم مآخذ عديدة، ينبغي القول إنّ «الحركة الوطنية اللبنانية» قد خاضت الصراع، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تحت شعارات صحيحة: الدفاع عن عروبة لبنان وعن تطوره الديموقراطي، وعن حقوق وقضية شعب فلسطين.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire