هاني المصري
أثارت الندوات والمؤتمرات وجلسات العصف الذهني التي عقدها مركز مسارات وغيره من المراكز والمؤسسات مؤخرًا، والتي تناولت الإستراتيجية المطلوبة في مواجهة حكومة نتنياهو؛ الكثير من القضايا والأفكار والخواطر، أهمها أنها عكست الحالة الفلسطينية العامة لجهة حالة التشتت، وانتشار أنواع من التوهان والإحباط وفقدان الثقة وانعدام اليقين بأي شيء، على الرغم من الانبهار بصمود ومقاومة مخيم جنين ونابلس، وبظاهرة الكتائب، ومن ضمنها عرين الأسود، التي أكدت مرة أخرى أن الشعب الفلسطيني مصمم على حمل الراية، موجة وراء موجة، وجيلًا وراء جيل، ولكن ما يسبب القلق، وحتى اليأس، أنها ظاهرة عفوية وجهوية لم تعمم، وتفتقد إلى الأفكار والرؤية التي ترشدها، والجبهة العريضة التي تسندها، والإستراتيجية التي توجهها، والقيادة الموحدة التي تقودها. ولأنها تواجه سلطة تريد القضاء عليها أو احتواءها، لذا فهي معرضة لأن تكون ضحية جديدة من ضحايا الانقسام.
نجد التوهان في أجلى صوره عند تناول المشروع الوطني، وهو الموضوع الأهم؛ إذ نرى ضياعًا يظهر بقيام كل شخص بتفصيل مشروع وطني على مقاسه، أو على مقاس فصيله أو عشيرته أو مدينته أو المكان الذي يقيم به، لذا تنتشر وجهات نظر كثيرة؛ ما يضيف عقبة كبيرة أمام الوحدة، وحتى التنسيق بين الفرقاء الفلسطينيين، فإذا كان المشروع الوطني غير معروف أو مختلفًا عليه، فكيف يمكن تحقيقه؟ فمن دون مشروع وطني متفق عليه، لا وحدة يمكن أن تقوم، ومن دون وحدة لا يمكن تحقيق الانتصار.
في الحقيقة والأصل أن المشروع الوطني ثابت، وليس ولا يجب أن يكون عرضة للتغيير والتبديل بتبدل الأحوال والظروف والمصالح، فما يتغير هي الخطط والأدوات والإستراتيجيات المعتمدة في كل مرحلة للوصول إليه، وعلى أساس الكفاح لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهكذا دواليك، من دون التخلي عن الحقوق الطبيعية والقانونية والتاريخية، والأهداف الوطنية الكبرى.
يرى أصحاب وجهة النظر هذه التي تنطلق من أن المشروع الوطني التاريخي ثابت لا يتغير كونه يقوم على أساس الرواية التاريخية الحقيقية وليست المزيفة، أن الفلسطينيين ليس مطلوبًا منهم أن يطرحوا مشروعًا وطنيًا جديدًا كل عام، أو في كل مرحلة، وإنما المشروع الأصلي يبقى هو هو إلى أن يتحقق.
نحن بحاجة إلى إحياء المشروع الوطني، أما ما يتغير فهي البرامج التي توضع لتناسب المراحل المختلفة والظروف، وتنسجم مع موازين القوى والمتغيرات والمعطيات المستجدة والخبرات المستفادة، فالمشروع الوطني بأركانه الأساسية يتضمن (التحرير الكامل، وحق العودة، وتقرير المصير للشعب الفلسطيني كله)، وهو متضمن في الميثاق القومي المقر عند تأسيس منظمة التحرير، ومن ثم في الميثاق الوطني الذي أقر بعد قيادة فصائل الثورة، وبالذات حركة فتح، لمنظمة التحرير بعد هزيمة 1967 وانتصار الكرامة في العام 1968.
مطلوب إضافة حل للمسألة الإسرائيلية
التغيير/التطوير الذي حدث ويمكن أن يحدث حول كيفية حل المسألة الإسرائيلية ضمن هذا المشروع؛ أي موقع اليهود الإسرائيليين في الحل التاريخي؛ إذ لم يعد ممكنًا تجاهلهم، أو طرح رميهم في البحر، أو عودتهم من حيث أتوا، أو التعامل معهم بوصفهم رعايا وأخذ الجزية منهم، خصوصًا بعد أن أصبح أغلبية الإسرائيليين من المولودين في أرض فلسطين وليسوا مسؤولين عما فعل آباؤهم وأجدادهم، ولهذا السبب طرحت الثورة الفلسطينية فكرة إقامة الدولة الديمقراطية بعد التحرير وهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني، التي سيقيم فيها جميع المواطنين سواسية، بغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا أو لا دينيين أو ملحدين.
وكذلك يجب إعادة صياغة الميثاق بما لا يمس بالحقوق الأساسية، عبر إضافة مفاهيم تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين، والديمقراطية بكل مكوناتها، وعلى رأسها فصل السلطات واستقلالها، وإجراء الانتخابات المنتظمة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، واحترام سيادة القانون، والجمع ما بين المهمات الوطنية والديمقراطية.
الخلل في التخلي عن الحقوق الأساسية من أجل الحقوق المنقوصة، والنتيجة ضياع الإثنين
بدأ الخلل حين جرى تجاوز الحقوق الأساسية والأهداف الكبرى عبر المساس بالميثاق من أجل الحصول على الاعتراف بالمنظمة بوصفها ممثلًا شرعيًا وحيدًا، وصولًا إلى محاولة تغييره بوصفه أحد أثمان البحث عن تسوية وتحقيق الحد الأدنى من الحقوق، من خلال الجلوس على المقعد الفلسطيني على مائدة المفاوضات والمؤتمرات، في ضوء وجود وتزايد مخاطر شطب العامل الفلسطيني لصالح الأدوار والبدائل العربية وغير العربية.
لقد تم تغليب الحصول على الاعتراف بالدور والتمثيل على حساب الحقوق، وخصوصًا عشية وغداة التوقيع على اتفاق أوسلو؛ حيث انتشر تصور بما أن حكومة إسحاق رابين اعترفت بالمنظمة ممثلًا شرعيًا، وبقيام سلطة حكم ذاتي على الأرض الفلسطينية، وعودة قيادة وكوادر المنظمة وفصائلها إلى أرض الوطن، فهذا يعني اعترافًا إسرائيليًا بالحقوق الدنيا، وهذا غير صحيح بالمرة، فشتان بين الأمرين.
كما انتشر تصور أن هناك إمكانية للتوصل إلى مقايضة بين الأهداف الكاملة والحقوق التاريخية في كل فلسطين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كله، وبحق العودة للاجئين، مقابل إقامة دولة على حدود 1967.
تبين، وهو كان واضح في البداية للكثيرين، أن هذا وهم كبير، فهناك فرق كبير بين هذا وذاك، فجرى الاعتراف بالمنظمة حتى يتم ترويضها، ونزع مخالبها وأوراق قوتها، والتخلص منها بوصفها تجسد الكيان الوطني والحقوق الجمعية للفلسطينيين، ودفعها إلى التنازل عن الحقوق. وكما هو معروف انتهت هذه المحاولة إلى الوضع الكارثي الذي نحن فيه، وهو ما يفسر حالة الإحباط المنتشرة، فقد تم التنازل عن الحقوق الكاملة من دون تحقيق الحقوق المنقوصة، ولو بالحد الأدنى، ولم تجسد الدولة، وأصبحت السلطة حكمًا ذاتيًا محدودًا إلى الأبد، ويتم إضعاف دورها وتهديدها بالانهيار والحل إذا لم تندمج أكثر وأكثر وبشكل كامل في منظومة الأمن الإسرائيلية، ولم تتم المحافظة على المنظمة التي أصبحت هيكلًا خاليًا من المضمون والدور. فلم تتجسد الدولة عمليًا على الأرض على الرغم من إعلانها وكونها حقًا لا يجب أن يخضع للمفاوضات، ولم يتحقق الاستقلال، بل تتقدم إسرائيل على طريق فرض سيادتها على كامل فلسطين؛ حيث تحث الخطى لضم الضفة الغربية، وخصوصًا المناطق المصنفة (ج).
مطلوب مراجعة عميقة وجريئة وتغيير المسار
أمام هذا المصير البائس لمسيرة المفاوضات واتفاق أوسلو، والانقسام إلى سلطتين متنازعتين أصبح الصراع بينهما يطغى على أي شيء آخر، وبدلًا من النقد والنقد الذاتي، ومراجعة التجربة مراجعة عميقة وجريئة، واستخلاص الدروس والعبر، والاعتراف بالأخطاء والخطايا وبخطورة التنازلات المجانية والأوهام الضارة والرهانات الخاسرة والتهور والمغامرة، وضرورة تغيير المسار جذريًا بالعودة إلى المشروع الوطني الأصلي الذي جسد وينطلق من وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية... نجد انصياعًا للمصالح الفردية والفئوية والجهوية والفصائلية، وزاد الطين بلة الجهل والتخلف الفكري والثقافي، وعدم رؤية المتغيرات الحاصلة والتي يمكن أن تحصل.
حل الدولتين والدولة الواحدة من دون هزيمة الصهيونية وجهان لعملة واحدة
هناك من يريد أن يبقى في الدوامة نفسها، أو يدخل القضية إلى دوامة أخرى تكون وجهًا آخر من أوسلو، وذلك يعبر عن نفسه بالاعتراف بالواقع والتكيف معه بدلًا من العمل على تغييره، حتى أن بعضًا من منظري أوسلو وأنصاره باتوا يرددون أن "حل الدولتين" مات، وأن البديل منه:
إما القبول بما يعرضه الاحتلال، وأخذ شيء أفضل من لا شيء، وأفضل من الشطب الكامل للهوية والدور والحقوق الفلسطينية، وهو بقاء السلطة الحالية المقيدة التي تقوم بدور وظيفي لصالح الاحتلال بوصفها حلًا نهائيًا تحت السيادة الإسرائيلية، خشية من انهيار السلطة وحل سلطات أو إدارات محلية بدلًا منها، تحت ذريعة أن وجود مليون مستوطن في الضفة، قضى تمامًا على إمكانية قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ذات سيادة، وعاصمتها القدس.
أو القبول بالوجه الآخر لعملة أوسلو، عبر طرح حل الدولة الواحدة والقبول بالمواطنة المنقوصة داخل الدولة اليهودية؛ أي ليس من خلال الكفاح لهزيمة المشروع الاستعماري الاحتلالي الإحلالي، وتفكيك نظام الامتيازات العنصري، وإنما عن طريق الترويج لمزايا أن يكون الفلسطينيون مواطنين في دولة إسرائيل؛ لأن هذا مع الزمن يمكن أن يغير طبيعة دولة إسرائيل، ويجعلها دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية، أو بما هو تكتيك للضغط من أجل إحياء حل الدولتين، على الرغم من أن 99% من الإسرائيليين يرفضون منح مواطنة وحقوق كاملة للفلسطينيين، وهذا يعني أن المطروح فقط عند هؤلاء قبول الأمر الواقع، وسلطة خاضعة للسيادة الإسرائيلية.
يكمن خلل أصحاب وجهات النظر هذه في أنهم يعدّون ما تقوم به إسرائيل، والحقائق التي تزرعها على الأرض الفلسطينية، بأنها تمنح الاحتلال حقًا، ويترتب عليها التزامات، وكأنها حقائق نهائية غير قابلة للتبديل ولا للتغيير، وهي حقائق لا تعطي بالحقيقة إذا استمرت وتم التكيف معها، لا إمكانية لدولة فلسطينية على حدود 67، ولا يهودية بين النهر والبحر بلا حقوق للفلسطينيين، ولا لدولة واحدة ديمقراطية بعيدة عن الصهيونية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني العنصري، وإنما تشق الطريق واسعًا لاستكمال إقامة "إسرائيل الكبرى"، التي لا تعترف بالحقوق الفلسطينية، ولا حتى ضمن صيغة المواطن من الدرجة الثانية، عبر فرض أنظمة مختلفة، إلى أن تتوفر الفرصة المناسبة لتهجير الفلسطينيين، ومن يقول إن التهجير مستحيل، فليتمعن بمغزى محرقة حوارة، وهتاف المستوطنين لتهجير أصحاب البلاد الأصليين، وكذلك ما جاء في صفقة ترامب من تهجير أهالي المثلث للضفة، وليتذكر ملايين السوريين الذين هَاجروا أو هُجِّروا داخل بلدهم وخارجه.
الحائط الذي يمنع التهجير موقف فلسطيني موحد وفاعل، ضمن رؤية وإستراتيجية واقعية وطنية ديمقراطية، وقيادة واحدة ذات إرادة، يدعمه موقف عربي موحد، ودعم عالمي موحد، وهي شروط لا يتوافر أي منها حتى الآن.
لا يمكن أن تأخذ بالمفاوضات ما لم تكن قادرًا على تحقيقه من دونها
تأسيسًا على ما سبق، فإن أحد أهم الدروس المستفادة من تاريخ الصراع، خصوصًا بعد انطلاق قطار التسوية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر في العام 1973، هو أنك لا يمكن أن تأخذ بالمفاوضات ما لم تكن قادرًا على تحقيقه من دونها، ولهذا فإن نظرية الحلول بكل أشكالها، وبالذات حل الدولتين وحل الدولة الواحدة وغيرهما، ساقطة منذ البداية، واستندت إلى أوهام، فلم يكن هناك شريك إسرائيلي لهذه الحلول، حتى في زمن العصر الذهبي لأوسلو، لم يقبل كل من: شمعون بيرس وإسحاق رابين، زعيمي "معسكر السلام"، بإقامة دولة فلسطينية، بل عندما سئل الأخير قبل اغتياله: ماذا ستعطي الفلسطينيين في الاتفاق النهائي؟ فأجاب: ما معناه نصف الضفة الغربية، وعندما قيل له إن هذا العرض لن يقبل به الفلسطينيون، ردّ بقوله: عندها يحتفظ كل طرف بما لديه؛ أي يبقى الاحتلال، وتبقى السيادة الإسرائيلية.
على الرغم مما سبق، لم يكن يخلو من الوجاهة تبني برنامج إقامة سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره؛ لأن هناك مكانة سياسية وقانونية للأراضي المحتلة العام 1967 مختلفة عن مكانة بقية فلسطين التي قامت عليها إسرائيل، على الرغم من أنها جزء من الأرض الفلسطينية الواحدة، وتجسدت هذه المكانة بقرارات دولية ترفض الاحتلال، وتطالب بإنهائه، وهي تختلف عن مكانة فلسطين ككل؛ حيث اعترف العالم، حتى الأشقاء والأصدقاء بإسرائيل، ولم يعترف باحتلالها، وعلى خلفية أن هناك أغلبية كبيرة من المواطنين (أصحابها الأصليين) في الضفة الغربية وقطاع غزة مقارنة بالأقلية من المستعمرين المستوطنين، في ظل تحرك عالمي بمشاركة ومدعوم من القطبين الدوليين حينذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ودعم عربي للمفاوضات والتسوية، لا يزال يرخي بظلاله السوداء حتى الآن.
تجلت بداية الانحدار بالانتقال من برنامج السلطة الوطنية إلى الدولة الفلسطينية من دون تنازل عن الحقوق الكاملة في البداية إلى الموافقة على قرارَيْ مجلس الأمن 242 و338، اللذين لا يتعاملان مع جذور القضية الفلسطينية، بل مع آثار حرب حزيران 1967، ثم إلى توقيع أوسلو الذي قدم فيه المفاوض الفلسطيني تنازلات كبرى مقابل الاعتراف بالمنظمة وإقامة سلطة حكم ذاتي، ووعد بالتفاوض لمدة خمس سنوات للتوصل إلى حل نهائي من دون الاتفاق على مضمون هذا الحل، بما في ذلك عدم إطلاق الأسرى، ولا الإشارة إلى الدولة الفلسطينية، ولذا من الطبيعي أن يوصل إلى المآلات الحالية: سلطة حكم ذاتي بوصفها حلًا نهائيًا، مع انقسام سياسي وجغرافي بلا أي أفق سياسي.
لا يمكن من دون نهوض وطني شامل، وتغير البيئة العربية والإقليمية والدولية بصورة مناسبة؛ الانتقال من مقاربة الاستقلال الوطني إلى مقاربة الدولة الواحدة على أنقاض المشروع الاستعماري؛ حيث لا يؤدي ذلك سوى إلى تمكين الاحتلال من التهام الضفة الغربية بسرعة أكبر وتكاليف أقل، فالمعركة الرئيسية الدائرة حاليًا هي على الضفة، وترك المعركة مباشرة أو بالانشغال بمعارك أخرى لا يقوي خيار الدولة الواحدة، بل يغطي على الدولة الاستعمارية العنصرية الواحدة التي تقيمها إسرائيل، من خلال أنظمة قانونية وسياسية مختلفة، بين تلك التي تحكم أهلنا في الداخل، وتلك التي تحكم القدس، والتي تحكم الضفة، وكذلك التي تحكم قطاع غزة عبر الحصار والعدوان.
هناك إنجازات دولية سياسية وقانونية تتضمنها القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومختلف الوكالات التابعة للأمم المتحدة، بما فيها المنظمة العالمية لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل العليا، والمحكمة الجنائية الدولية، وهناك الاعتراف الأممي بدولة فلسطين بوصفها "دولة مراقبة" واعتراف 140 دولة بالدولة الفلسطينية؛ كل هذا لا يمكن إلقاؤه وراءنا مقابل لا شيء، فالخيارات تبنى ولا تتحقق بمجرد طرحها، وحتى تبنى فهي بحاجة إلى جهد كبير محلي وإقليمي ودولي، وهذا يتطلب الانطلاق من التعامل مع الواقع لتغييره؛ لأن القفز عنه أو الخضوع له يؤدي إلى تكريسه لا تغييره.
أهداف جامعة
هل هناك من يعارض وضع أهداف مثل: إنهاء الاحتلال من كامل الضفة والقطاع، وحق العودة والتعويض، وحق تقرير المصير، والمساواة الفردية والقومية وإسقاط الفصل العنصري، وتمكين الفلسطيني في الشتات وأماكن اللجوء من الاحتفاظ بهويته الوطنية والدفاع عن حقوقه المدنية؟
لا أعتقد، وهي أهداف تكمل بعضها بعضًا، وتنسجم مع المهمات الخاصة وموازين القوى، ولا تتنازل، بل تتمسك، بما يجمع الفلسطينيين جميعًا.
إن السير لتحقيق هذه الأهداف بشكل متوازٍ ومتزامن، وتحقيق واحد منها أو التقدم على هذا الطريق، يمكن أن يخدم الأهداف الأخرى، ومن يريد أن يضع إنجاز الاستقلال لدولة فلسطين بوصفه مرحلة على طريق الحل الجذري الديمقراطي فهو لا يتعارض مع من يعارض هذا الهدف لصالح التمسك بالدولة الواحدة التي ستقام على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي الإحلالي العنصري.
هناك أمل... تفاءلوا بالخير تجدوه
توضح الأزمة التي تعاني منها إسرائيل أن مصيرها محتوم جراء أنها كيان معادٍ مزروع في المنطقة العربية، التي ترفضه وستبقى ترفضه إلى أن تنتصر عليه، فهو ليس دولة عادية طبيعية، بل يجسد المشروع الاستعماري الذي يحمل بذور فنائه، ولكن هذا لن يتحقق استجابة لتوقعات أو نبوءات أو خرافات عن زوال إسرائيل في العام الماضي أو في العام 2027 أو غيرهما، وإنما نتيجة تفاعل عوامل داخلية وخارجية، وهذا يمكن أن يستغرق عشر سنوات أو عشرين أو خمسين سنة، لكن المؤكد أن العالم يتغير والإقليم يتغير وإسرائيل تتغير، والتغييرات ليست كلها في صالح الفلسطينيين، ولا تصب لصالحهم وحدهم، لذا عليهم أن يتغيروا بالصورة القادرة حتى يستطيعوا توظيف المتغيرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية لصالحهم.
أثارت الندوات والمؤتمرات وجلسات العصف الذهني التي عقدها مركز مسارات وغيره من المراكز والمؤسسات مؤخرًا، والتي تناولت الإستراتيجية المطلوبة في مواجهة حكومة نتنياهو؛ الكثير من القضايا والأفكار والخواطر، أهمها أنها عكست الحالة الفلسطينية العامة لجهة حالة التشتت، وانتشار أنواع من التوهان والإحباط وفقدان الثقة وانعدام اليقين بأي شيء، على الرغم من الانبهار بصمود ومقاومة مخيم جنين ونابلس، وبظاهرة الكتائب، ومن ضمنها عرين الأسود، التي أكدت مرة أخرى أن الشعب الفلسطيني مصمم على حمل الراية، موجة وراء موجة، وجيلًا وراء جيل، ولكن ما يسبب القلق، وحتى اليأس، أنها ظاهرة عفوية وجهوية لم تعمم، وتفتقد إلى الأفكار والرؤية التي ترشدها، والجبهة العريضة التي تسندها، والإستراتيجية التي توجهها، والقيادة الموحدة التي تقودها. ولأنها تواجه سلطة تريد القضاء عليها أو احتواءها، لذا فهي معرضة لأن تكون ضحية جديدة من ضحايا الانقسام.
نجد التوهان في أجلى صوره عند تناول المشروع الوطني، وهو الموضوع الأهم؛ إذ نرى ضياعًا يظهر بقيام كل شخص بتفصيل مشروع وطني على مقاسه، أو على مقاس فصيله أو عشيرته أو مدينته أو المكان الذي يقيم به، لذا تنتشر وجهات نظر كثيرة؛ ما يضيف عقبة كبيرة أمام الوحدة، وحتى التنسيق بين الفرقاء الفلسطينيين، فإذا كان المشروع الوطني غير معروف أو مختلفًا عليه، فكيف يمكن تحقيقه؟ فمن دون مشروع وطني متفق عليه، لا وحدة يمكن أن تقوم، ومن دون وحدة لا يمكن تحقيق الانتصار.
في الحقيقة والأصل أن المشروع الوطني ثابت، وليس ولا يجب أن يكون عرضة للتغيير والتبديل بتبدل الأحوال والظروف والمصالح، فما يتغير هي الخطط والأدوات والإستراتيجيات المعتمدة في كل مرحلة للوصول إليه، وعلى أساس الكفاح لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهكذا دواليك، من دون التخلي عن الحقوق الطبيعية والقانونية والتاريخية، والأهداف الوطنية الكبرى.
يرى أصحاب وجهة النظر هذه التي تنطلق من أن المشروع الوطني التاريخي ثابت لا يتغير كونه يقوم على أساس الرواية التاريخية الحقيقية وليست المزيفة، أن الفلسطينيين ليس مطلوبًا منهم أن يطرحوا مشروعًا وطنيًا جديدًا كل عام، أو في كل مرحلة، وإنما المشروع الأصلي يبقى هو هو إلى أن يتحقق.
نحن بحاجة إلى إحياء المشروع الوطني، أما ما يتغير فهي البرامج التي توضع لتناسب المراحل المختلفة والظروف، وتنسجم مع موازين القوى والمتغيرات والمعطيات المستجدة والخبرات المستفادة، فالمشروع الوطني بأركانه الأساسية يتضمن (التحرير الكامل، وحق العودة، وتقرير المصير للشعب الفلسطيني كله)، وهو متضمن في الميثاق القومي المقر عند تأسيس منظمة التحرير، ومن ثم في الميثاق الوطني الذي أقر بعد قيادة فصائل الثورة، وبالذات حركة فتح، لمنظمة التحرير بعد هزيمة 1967 وانتصار الكرامة في العام 1968.
مطلوب إضافة حل للمسألة الإسرائيلية
التغيير/التطوير الذي حدث ويمكن أن يحدث حول كيفية حل المسألة الإسرائيلية ضمن هذا المشروع؛ أي موقع اليهود الإسرائيليين في الحل التاريخي؛ إذ لم يعد ممكنًا تجاهلهم، أو طرح رميهم في البحر، أو عودتهم من حيث أتوا، أو التعامل معهم بوصفهم رعايا وأخذ الجزية منهم، خصوصًا بعد أن أصبح أغلبية الإسرائيليين من المولودين في أرض فلسطين وليسوا مسؤولين عما فعل آباؤهم وأجدادهم، ولهذا السبب طرحت الثورة الفلسطينية فكرة إقامة الدولة الديمقراطية بعد التحرير وهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني، التي سيقيم فيها جميع المواطنين سواسية، بغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا أو لا دينيين أو ملحدين.
وكذلك يجب إعادة صياغة الميثاق بما لا يمس بالحقوق الأساسية، عبر إضافة مفاهيم تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين، والديمقراطية بكل مكوناتها، وعلى رأسها فصل السلطات واستقلالها، وإجراء الانتخابات المنتظمة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، واحترام سيادة القانون، والجمع ما بين المهمات الوطنية والديمقراطية.
الخلل في التخلي عن الحقوق الأساسية من أجل الحقوق المنقوصة، والنتيجة ضياع الإثنين
بدأ الخلل حين جرى تجاوز الحقوق الأساسية والأهداف الكبرى عبر المساس بالميثاق من أجل الحصول على الاعتراف بالمنظمة بوصفها ممثلًا شرعيًا وحيدًا، وصولًا إلى محاولة تغييره بوصفه أحد أثمان البحث عن تسوية وتحقيق الحد الأدنى من الحقوق، من خلال الجلوس على المقعد الفلسطيني على مائدة المفاوضات والمؤتمرات، في ضوء وجود وتزايد مخاطر شطب العامل الفلسطيني لصالح الأدوار والبدائل العربية وغير العربية.
لقد تم تغليب الحصول على الاعتراف بالدور والتمثيل على حساب الحقوق، وخصوصًا عشية وغداة التوقيع على اتفاق أوسلو؛ حيث انتشر تصور بما أن حكومة إسحاق رابين اعترفت بالمنظمة ممثلًا شرعيًا، وبقيام سلطة حكم ذاتي على الأرض الفلسطينية، وعودة قيادة وكوادر المنظمة وفصائلها إلى أرض الوطن، فهذا يعني اعترافًا إسرائيليًا بالحقوق الدنيا، وهذا غير صحيح بالمرة، فشتان بين الأمرين.
كما انتشر تصور أن هناك إمكانية للتوصل إلى مقايضة بين الأهداف الكاملة والحقوق التاريخية في كل فلسطين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كله، وبحق العودة للاجئين، مقابل إقامة دولة على حدود 1967.
تبين، وهو كان واضح في البداية للكثيرين، أن هذا وهم كبير، فهناك فرق كبير بين هذا وذاك، فجرى الاعتراف بالمنظمة حتى يتم ترويضها، ونزع مخالبها وأوراق قوتها، والتخلص منها بوصفها تجسد الكيان الوطني والحقوق الجمعية للفلسطينيين، ودفعها إلى التنازل عن الحقوق. وكما هو معروف انتهت هذه المحاولة إلى الوضع الكارثي الذي نحن فيه، وهو ما يفسر حالة الإحباط المنتشرة، فقد تم التنازل عن الحقوق الكاملة من دون تحقيق الحقوق المنقوصة، ولو بالحد الأدنى، ولم تجسد الدولة، وأصبحت السلطة حكمًا ذاتيًا محدودًا إلى الأبد، ويتم إضعاف دورها وتهديدها بالانهيار والحل إذا لم تندمج أكثر وأكثر وبشكل كامل في منظومة الأمن الإسرائيلية، ولم تتم المحافظة على المنظمة التي أصبحت هيكلًا خاليًا من المضمون والدور. فلم تتجسد الدولة عمليًا على الأرض على الرغم من إعلانها وكونها حقًا لا يجب أن يخضع للمفاوضات، ولم يتحقق الاستقلال، بل تتقدم إسرائيل على طريق فرض سيادتها على كامل فلسطين؛ حيث تحث الخطى لضم الضفة الغربية، وخصوصًا المناطق المصنفة (ج).
مطلوب مراجعة عميقة وجريئة وتغيير المسار
أمام هذا المصير البائس لمسيرة المفاوضات واتفاق أوسلو، والانقسام إلى سلطتين متنازعتين أصبح الصراع بينهما يطغى على أي شيء آخر، وبدلًا من النقد والنقد الذاتي، ومراجعة التجربة مراجعة عميقة وجريئة، واستخلاص الدروس والعبر، والاعتراف بالأخطاء والخطايا وبخطورة التنازلات المجانية والأوهام الضارة والرهانات الخاسرة والتهور والمغامرة، وضرورة تغيير المسار جذريًا بالعودة إلى المشروع الوطني الأصلي الذي جسد وينطلق من وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية... نجد انصياعًا للمصالح الفردية والفئوية والجهوية والفصائلية، وزاد الطين بلة الجهل والتخلف الفكري والثقافي، وعدم رؤية المتغيرات الحاصلة والتي يمكن أن تحصل.
حل الدولتين والدولة الواحدة من دون هزيمة الصهيونية وجهان لعملة واحدة
هناك من يريد أن يبقى في الدوامة نفسها، أو يدخل القضية إلى دوامة أخرى تكون وجهًا آخر من أوسلو، وذلك يعبر عن نفسه بالاعتراف بالواقع والتكيف معه بدلًا من العمل على تغييره، حتى أن بعضًا من منظري أوسلو وأنصاره باتوا يرددون أن "حل الدولتين" مات، وأن البديل منه:
إما القبول بما يعرضه الاحتلال، وأخذ شيء أفضل من لا شيء، وأفضل من الشطب الكامل للهوية والدور والحقوق الفلسطينية، وهو بقاء السلطة الحالية المقيدة التي تقوم بدور وظيفي لصالح الاحتلال بوصفها حلًا نهائيًا تحت السيادة الإسرائيلية، خشية من انهيار السلطة وحل سلطات أو إدارات محلية بدلًا منها، تحت ذريعة أن وجود مليون مستوطن في الضفة، قضى تمامًا على إمكانية قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ذات سيادة، وعاصمتها القدس.
أو القبول بالوجه الآخر لعملة أوسلو، عبر طرح حل الدولة الواحدة والقبول بالمواطنة المنقوصة داخل الدولة اليهودية؛ أي ليس من خلال الكفاح لهزيمة المشروع الاستعماري الاحتلالي الإحلالي، وتفكيك نظام الامتيازات العنصري، وإنما عن طريق الترويج لمزايا أن يكون الفلسطينيون مواطنين في دولة إسرائيل؛ لأن هذا مع الزمن يمكن أن يغير طبيعة دولة إسرائيل، ويجعلها دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية، أو بما هو تكتيك للضغط من أجل إحياء حل الدولتين، على الرغم من أن 99% من الإسرائيليين يرفضون منح مواطنة وحقوق كاملة للفلسطينيين، وهذا يعني أن المطروح فقط عند هؤلاء قبول الأمر الواقع، وسلطة خاضعة للسيادة الإسرائيلية.
يكمن خلل أصحاب وجهات النظر هذه في أنهم يعدّون ما تقوم به إسرائيل، والحقائق التي تزرعها على الأرض الفلسطينية، بأنها تمنح الاحتلال حقًا، ويترتب عليها التزامات، وكأنها حقائق نهائية غير قابلة للتبديل ولا للتغيير، وهي حقائق لا تعطي بالحقيقة إذا استمرت وتم التكيف معها، لا إمكانية لدولة فلسطينية على حدود 67، ولا يهودية بين النهر والبحر بلا حقوق للفلسطينيين، ولا لدولة واحدة ديمقراطية بعيدة عن الصهيونية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني العنصري، وإنما تشق الطريق واسعًا لاستكمال إقامة "إسرائيل الكبرى"، التي لا تعترف بالحقوق الفلسطينية، ولا حتى ضمن صيغة المواطن من الدرجة الثانية، عبر فرض أنظمة مختلفة، إلى أن تتوفر الفرصة المناسبة لتهجير الفلسطينيين، ومن يقول إن التهجير مستحيل، فليتمعن بمغزى محرقة حوارة، وهتاف المستوطنين لتهجير أصحاب البلاد الأصليين، وكذلك ما جاء في صفقة ترامب من تهجير أهالي المثلث للضفة، وليتذكر ملايين السوريين الذين هَاجروا أو هُجِّروا داخل بلدهم وخارجه.
الحائط الذي يمنع التهجير موقف فلسطيني موحد وفاعل، ضمن رؤية وإستراتيجية واقعية وطنية ديمقراطية، وقيادة واحدة ذات إرادة، يدعمه موقف عربي موحد، ودعم عالمي موحد، وهي شروط لا يتوافر أي منها حتى الآن.
لا يمكن أن تأخذ بالمفاوضات ما لم تكن قادرًا على تحقيقه من دونها
تأسيسًا على ما سبق، فإن أحد أهم الدروس المستفادة من تاريخ الصراع، خصوصًا بعد انطلاق قطار التسوية بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر في العام 1973، هو أنك لا يمكن أن تأخذ بالمفاوضات ما لم تكن قادرًا على تحقيقه من دونها، ولهذا فإن نظرية الحلول بكل أشكالها، وبالذات حل الدولتين وحل الدولة الواحدة وغيرهما، ساقطة منذ البداية، واستندت إلى أوهام، فلم يكن هناك شريك إسرائيلي لهذه الحلول، حتى في زمن العصر الذهبي لأوسلو، لم يقبل كل من: شمعون بيرس وإسحاق رابين، زعيمي "معسكر السلام"، بإقامة دولة فلسطينية، بل عندما سئل الأخير قبل اغتياله: ماذا ستعطي الفلسطينيين في الاتفاق النهائي؟ فأجاب: ما معناه نصف الضفة الغربية، وعندما قيل له إن هذا العرض لن يقبل به الفلسطينيون، ردّ بقوله: عندها يحتفظ كل طرف بما لديه؛ أي يبقى الاحتلال، وتبقى السيادة الإسرائيلية.
على الرغم مما سبق، لم يكن يخلو من الوجاهة تبني برنامج إقامة سلطة وطنية على أي شبر يتم تحريره؛ لأن هناك مكانة سياسية وقانونية للأراضي المحتلة العام 1967 مختلفة عن مكانة بقية فلسطين التي قامت عليها إسرائيل، على الرغم من أنها جزء من الأرض الفلسطينية الواحدة، وتجسدت هذه المكانة بقرارات دولية ترفض الاحتلال، وتطالب بإنهائه، وهي تختلف عن مكانة فلسطين ككل؛ حيث اعترف العالم، حتى الأشقاء والأصدقاء بإسرائيل، ولم يعترف باحتلالها، وعلى خلفية أن هناك أغلبية كبيرة من المواطنين (أصحابها الأصليين) في الضفة الغربية وقطاع غزة مقارنة بالأقلية من المستعمرين المستوطنين، في ظل تحرك عالمي بمشاركة ومدعوم من القطبين الدوليين حينذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ودعم عربي للمفاوضات والتسوية، لا يزال يرخي بظلاله السوداء حتى الآن.
تجلت بداية الانحدار بالانتقال من برنامج السلطة الوطنية إلى الدولة الفلسطينية من دون تنازل عن الحقوق الكاملة في البداية إلى الموافقة على قرارَيْ مجلس الأمن 242 و338، اللذين لا يتعاملان مع جذور القضية الفلسطينية، بل مع آثار حرب حزيران 1967، ثم إلى توقيع أوسلو الذي قدم فيه المفاوض الفلسطيني تنازلات كبرى مقابل الاعتراف بالمنظمة وإقامة سلطة حكم ذاتي، ووعد بالتفاوض لمدة خمس سنوات للتوصل إلى حل نهائي من دون الاتفاق على مضمون هذا الحل، بما في ذلك عدم إطلاق الأسرى، ولا الإشارة إلى الدولة الفلسطينية، ولذا من الطبيعي أن يوصل إلى المآلات الحالية: سلطة حكم ذاتي بوصفها حلًا نهائيًا، مع انقسام سياسي وجغرافي بلا أي أفق سياسي.
لا يمكن من دون نهوض وطني شامل، وتغير البيئة العربية والإقليمية والدولية بصورة مناسبة؛ الانتقال من مقاربة الاستقلال الوطني إلى مقاربة الدولة الواحدة على أنقاض المشروع الاستعماري؛ حيث لا يؤدي ذلك سوى إلى تمكين الاحتلال من التهام الضفة الغربية بسرعة أكبر وتكاليف أقل، فالمعركة الرئيسية الدائرة حاليًا هي على الضفة، وترك المعركة مباشرة أو بالانشغال بمعارك أخرى لا يقوي خيار الدولة الواحدة، بل يغطي على الدولة الاستعمارية العنصرية الواحدة التي تقيمها إسرائيل، من خلال أنظمة قانونية وسياسية مختلفة، بين تلك التي تحكم أهلنا في الداخل، وتلك التي تحكم القدس، والتي تحكم الضفة، وكذلك التي تحكم قطاع غزة عبر الحصار والعدوان.
هناك إنجازات دولية سياسية وقانونية تتضمنها القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومختلف الوكالات التابعة للأمم المتحدة، بما فيها المنظمة العالمية لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل العليا، والمحكمة الجنائية الدولية، وهناك الاعتراف الأممي بدولة فلسطين بوصفها "دولة مراقبة" واعتراف 140 دولة بالدولة الفلسطينية؛ كل هذا لا يمكن إلقاؤه وراءنا مقابل لا شيء، فالخيارات تبنى ولا تتحقق بمجرد طرحها، وحتى تبنى فهي بحاجة إلى جهد كبير محلي وإقليمي ودولي، وهذا يتطلب الانطلاق من التعامل مع الواقع لتغييره؛ لأن القفز عنه أو الخضوع له يؤدي إلى تكريسه لا تغييره.
أهداف جامعة
هل هناك من يعارض وضع أهداف مثل: إنهاء الاحتلال من كامل الضفة والقطاع، وحق العودة والتعويض، وحق تقرير المصير، والمساواة الفردية والقومية وإسقاط الفصل العنصري، وتمكين الفلسطيني في الشتات وأماكن اللجوء من الاحتفاظ بهويته الوطنية والدفاع عن حقوقه المدنية؟
لا أعتقد، وهي أهداف تكمل بعضها بعضًا، وتنسجم مع المهمات الخاصة وموازين القوى، ولا تتنازل، بل تتمسك، بما يجمع الفلسطينيين جميعًا.
إن السير لتحقيق هذه الأهداف بشكل متوازٍ ومتزامن، وتحقيق واحد منها أو التقدم على هذا الطريق، يمكن أن يخدم الأهداف الأخرى، ومن يريد أن يضع إنجاز الاستقلال لدولة فلسطين بوصفه مرحلة على طريق الحل الجذري الديمقراطي فهو لا يتعارض مع من يعارض هذا الهدف لصالح التمسك بالدولة الواحدة التي ستقام على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي الإحلالي العنصري.
هناك أمل... تفاءلوا بالخير تجدوه
توضح الأزمة التي تعاني منها إسرائيل أن مصيرها محتوم جراء أنها كيان معادٍ مزروع في المنطقة العربية، التي ترفضه وستبقى ترفضه إلى أن تنتصر عليه، فهو ليس دولة عادية طبيعية، بل يجسد المشروع الاستعماري الذي يحمل بذور فنائه، ولكن هذا لن يتحقق استجابة لتوقعات أو نبوءات أو خرافات عن زوال إسرائيل في العام الماضي أو في العام 2027 أو غيرهما، وإنما نتيجة تفاعل عوامل داخلية وخارجية، وهذا يمكن أن يستغرق عشر سنوات أو عشرين أو خمسين سنة، لكن المؤكد أن العالم يتغير والإقليم يتغير وإسرائيل تتغير، والتغييرات ليست كلها في صالح الفلسطينيين، ولا تصب لصالحهم وحدهم، لذا عليهم أن يتغيروا بالصورة القادرة حتى يستطيعوا توظيف المتغيرات الإسرائيلية والإقليمية والدولية لصالحهم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire