اعتقال سناء سلامة: عن رفاهيّة اليأس والدولة المهزومة

 

أن تكون فلسطينياً يعني أن تتنازل طوعاً عن حقّك في التعب العاديّ الذي يصيب جسم أي إنسانٍ عاديٍّ. وأن تكون فلسطينياً يعني أيضاً أن تتخلّى عن حقّك الإنساني الخام في الراحة بمفهومها الطبيعيّ. إنّ مفهمة العاديّ والطبيعيّ لا تستجيب إلى التعريف النموذجي المتعارف عليه، لأنّنا ببساطة نواجه أشرس عدوّ معاصر: وحوش ضاريَة بلا عقلٍ وبلا أخلاق. وسناء سلامة دقّة، التي أتت بي إلى هذه الورقة لأكتب اليوم، لا تكفّ تردّد «إنّهم أصل الشرّ في العالم». وهم فعلاً كذلك! فأيّ «دولة» تدّعي القوّة يمكنها أن تقبل على نفسها أن ينجح وزير التطرّف فيها في الإيعاز باعتقال أرملة شهيد ما تزال هذه الدولة الفاشية نفسها تحتجز جثمانه في مشرحتها. إنّها دولة مهزومة... تلك الدولة التي تحرم طفلة من أبيها فلا يحظى بحضن واحدٍ معها وتحرم الطفلة ذاتها، بعد استشهاد والدها أسيراً مكبّلاً إلى سرير المستشفى، من أمّها وقد صحبتها إلى مسرح الحكواتي في البلدة القديمة في القدس.
هذه قصّة ثلاثيّ يدقّ مسامير يسُوع في الغيوم لتمطر على الفكرة الخالدة: ألّا نتعب! إنّهم أصحاب المعادلة الثابتة التي تخوّن اليأس وتمنع الاستسلام. نار من نور لا تميد تحتها الأرض: ميلاد من وليدٍ وسناء هي جيشهما معاً وهي البوصلة. وأعداء سردّيتنا الفلسطينية المحضة يعرفون وزن هذه البوصلة ولذا تربّصوا لها الخميس الماضي (29 أيار/مايو) في عاصمتنا الأبديّة المحتلّة القدس، ولذلك أيضاً لم يتوان جيشهم المهزوم عن اعتقال الحبيبة سناء دقّة زوجة الشهيد وليد. فهل رأيتم دولة تجرّ أذيال هزيمتها فتسجن أمّاً لأنّها زوجة أسير شهيد؟
لا يزال وليد دقّة يلاحقهم. وما يزال سرّ طيفه يؤرّقهم ويبثّ الرعب في أعماقهم. إنّ استمرار الفكرة حرّة شامخة تمشي على اثنين بعد ترجّل الجسد يُذكِي شرورهم الحاقدة فيلاحقون الزوجة الأمّ في يومها وفي نسقها الطبيعي مع ابنتهما. يلاحقون أفكارها وهواجسها وحدادها. ففي ظلّ الدولة المهزومة، يمسي الحداد تهمة توقف بموجبها سناء دقّة وتبعد عنها طفلتها ليتسنّى لساديّة الدولة أن تسألها: لماذا اخترتِ وليد دقّة زوجاً؟ لماذا أنجبتِ منه طفلة؟ ترتجّ هذه الدولة المنتهية الصلاحيّة وتحرّك أمراً قضائياً وعتاداً وجيشاً ليسحب أرملة حبكت كلّ الطرق إلى كلّ السجون التي نقل إليها وليد ولم تتعب أربعين عاماً، يسحبها من يومها ومن حقّها الطبيعي في أن تكون إلى جانب ابنتها، فهي كلّ من تبقّى لميلاد بعد أن غاب وليد.
إنّها الدولة التي تتلذّذ بساديّة رفيعة المستوى لتحقّق مع زوجة عن سبب اختيارها زوجها الذي استشهد، أعني زوجها الذي قتلوه. لقد مات وليد وحيداً مريضاً مكبّلاً في مستشفى أساف هاروفيه في السابع من نيسان/أبريل 2024. خرج آنذاك الوزير المتطرّف نفسه «يأسف» لموته ميتة طبيعية ويشدّد على أن وليد دقّة كان ينبغي أن يموت داخل السجن. وهو الوزير ذاته الذي حرّض على سناء سلامة قبل يوم واحد من اعتقالها أمس من القدس المحتلّة.
هكذا نرى انتصار سرديّتنا التي تكالبت كلّ الدّنيا عليها رغم الأثمان الباهظة. لقد انتصر وليد مرّة أخرى. ولقد انتصرت سناء مرّة أخرى على شرورهم الآثمة. ويمكن لميلاد أن تشعر بمزيد من الفخر بهذا الانتماء. الانتماء إلى جيش أبيها الوحيد الذي جابه دولة احتلال افتكّت وليداً من طعم «عروسة اللبنة» التي أعدّتها والدته قبيل اعتقاله. لقد أعادت سناء إلى وليد طعم الحياة لا فقط طعم اللبنة. ولقد أعطت سناء معنى لحياة وليد. غير أنّها أعطت معنى لحياتنا نحن المنتصرون إلى سرديّتهما الشخصيّة والمنتمون إلى السرديّة الجماعية: لقد جعلت لنضالنا معنى لأنّها مدرستنا التي نتعلّم منها. لقد تعلّمتُ من سناء أن أكون شرسة وتعلّمت من سناء أن أكون صلبة وتعلّمت من سناء أن أكنسَ اليأس. لقد أعطت سناء لمكنسة الغبار معنى عندما ناولتها شرف كنس اليأس. اليأس الذي أرادت عصابات الهاغاناه رشّه في وجوه سرديّتنا. وحاولت حرق جثث أجدادنا به.
تلاحق الدولة المهزومة سناء سلامة اليوم لأنّها لم تتعب من حمل صور وليد دقّة عالياً في السماء بعد استشهاده. تلاحقها لأنّها استطاعت أن تنجب ابتسامته حرّة تمشي وتغنّي في ملامح ميلاد. تلاحقها لأنّها تبعث الحياة في الجثمان المحتجز عندما تقف تحت خطّ الشمس مطالبة بالإفراج عنه. إنّهم يلاحقون إرادتها الصلبة ويلاحقون إصرارها الجبّار المتواصل منذ عقودٍ طويلةٍ.
إنّهم يلاحقون قدرتها الأخّاذة على ترويض الخيبة. وعلى جعلها مادّة للسخريّة من أسوارهم ومن أسلاكهم الشائكة. إنّ جنونهم يطال أيضاً قدرتها العجيبة على الضحك في وجه أسوارهم.
هذه سناؤنا وهذه آياتها. إنّ فكرة الوفاء والعهد تهزّ أركان الدولة المهزومة. ولعلّهم راهنوا على انطفاء لهيب الانتماء إلى وليد الفكرة عندما اغتالوه. فجنّوا عندما جعلت سناء من استشهاده ولادة أخرى هي إصرارها وقدرتها على الاستمرار سامقة مثل نخلة الدّار. إنّهم يرونه حيّاً فيها كلّ يوم ويرونه فاعلاً في ابتسامتها كلّ ثانية ويرونه صلباً في نظرتها دائماً. وهم يدركون أنّه يلاحقهم سرّاً وسيفاً وطيفاً في قفزة ميلاد وفي فنون «الدبكة» التي تتعلّمها. يلاحقهم في صوت القانون الذي اختارت ميلاد أن تتمّرن على العزف عليه. ألم يصنع وليد عوداً كاملاً في السجن من أوتار قادتها الصدف إلى القسم الذي كان موجوداً فيه؟ لقد اشتدّ عود الأوتار المهرّبة تلك، فصارت أعواداً لقانون ميلاد الجديد. وذلك قانون سناء الحاسم: ممنوع أن نيأس وممنوع أن نستسلم. لقد كتب وليد عن «كيّ الوعي»، فجاءت سناء تكوي اليأس!
تحرص سناء على أن تُنفِذَ وصيّة وليد كاملة من دون أن تسقط عنها أي تفصيل. تحرص أن ترتّب البيت كما يحبّ وليد أن يفعل. تحرص على أن تذكّر ميلاد بأن «بابا وليد» يفضّل شعرها الذهبّي طويلاً حرّاً لا يمسّه القطع. تحرص سناء على أن تعلّم ميلاد في البيئة التي كان وليد يحلم أن تكبر ابنته فيها. تمشي بخطى ثابتة نحو كلّ وصاياه. إنّها تحيّيه كلّما نادت: ميلاد! ميلادي! وهي فعلاً ميلادها. وسناء حقّاً ميلاد وليد.
تمثّل سناء الحلقة المركزية في هذا المحور الثلاثي. امرأة من نار وماء. لا يعرف التعب الطريق إليها. ولا تعرف ساقاها الوهن ولا تعرف يداها إلا الرفع. يعزّ عليّ كثيراً أن أرى يديْها في القيود وساقيها أيضاً لكنّني أدرك أن منظومتهم الحاقدة تتطاير شرراً من عزيمتها. وأدرك في الوقت ذاته أنّهم أصغر من أن ينالوا من صلابتها.
ليست سناء سلامة امرأة عاديّة. وليست استثناء. إنّها أسطورة! أسطورة فارّة من ملاحم الإغريق التي لا تتكرّر وهي فعلاً بهذا المعنى شخصيّة أسطورية لا تتكرّر.
ولا شكّ أن منطق دولة الاحتلال المتخبّط المهزوم يعرف وقع هذه الإنسانة في أفئدة حاضنتها الشعبيّة التي لا تراها رمزاً وحسب، بل مثالاً وقدوة. وإنّني أفخر أن أقول إنّها قدوتي ومثالي. لقد استطاعت سناء أن تفتكّ حصة وليد من الشمس ومن الحريّة عندما أعطت معنى لاسمه وصارت أمّاً لميلاده. ولقد استطاعت سناء أن تجترح معنى آخر للصبر والجلادة والحبّ عندما نجحت في جرّ حكايتها الفرديّة مع وليد إلى فضاء الرواية الجمعيّة الفلسطينية.
أعادت سناء تعريف المعنى الجمعي للنضال ووحدة الحال في السّاحات كما في الحبّ وفي العلاقات الإنسانية الطبيعية العاديّة. بيد أنّها نجحت كذلك في أن تجعل من هذه الممارسات اليوميّة العاديّة حالات نضالية مثل الولادة والحلم والانتماء. لقد خاضت اشتباكها الخاصّ مع أعتى دولة ظالمة وفرضت شروطها وشروط زوجها عليها. ولكنّها استطاعت أيضاً أن تحمّل قواعد هذا الاشتباك لجيل آخر بعدها أوقدت قصّتها نار جذْوته! هكذا تسقط الأجساد لا الفكرة.
لقد استطاعت سناء أن تفرض هذه المعادلة، أن تخرجها من سياقها الأدبيّ المرفّه إلى سياقها النضالي الواقعيّ. واستطاعت أن تروّض كلّ الأجساد فتسقط مقابل أن تبقى الفكرة صامدة عالية. وهذه الفكرة هي الميلاد. ميلادها الشخصي، نعم. إلا أنّها أيضاً ميلاد الفكرة الفلسطينية الحرّة. فالقدر الفلسطيني ممنوع من الهزيمة ومن الاستسلام ومن اليأس.
أنا أفخر بإرث سناء بقدر فخري بإرث وليد فيّ. أفخر أنّني تعلّمت منها كيف أكون ندّاً في معادلة الموت المحيطة بنا. وتعلّمت منها كيف أكون عنيدة في وجه الإبادة. أليس اغتيال وليد في النهاية صورة عن إبادة فرديّة لعائلتها؟ لقد علّمتني سناء ألا فرق بين عمق الإبادتين: الفرديّة والجماعية. ولا فرق في الآن نفسه بين جدوى المقاومتين: مقاومة الإبادة الفردية ومقاومة الإبادة الجماعية التي تشنق أطفالنا أمام مرأى عالم لا يحرّك ساكناً.
لقد تعلّمت من وليد معنى أن أكون ندّاً وصلبة وأنّ اليأس رفاهية لا نمتلكها -على حدّ عبارته- غير أنّني تعلّمت من سناء معنى أن أكون إنسانة حرّة. علّمتني كيف أمسك بخياراتي إلى آخر رمق وكيف أتمسّك بها إلى آخر رمق: لقد وضعت يديْها على يديّ لتعلّمني كيف أثبت على مِقود خياراتي وكيف أستشرس في الدفاع عنها تماماً كما تعلّم ميلاد كيف تضع يديْها على مِقود السيّارة وتمشي. لقد تعلّمت من سناء ألا أمشي سوى إلى الأمام!
ليست هذه الحلقة الوحيدة التي حاولت فيها الدولة المهزومة التضييق على سناء. هناك إشارات سابقة كثيرة. استطاعت سناء أن تديرها وأن تتعامل معها. وليست هذه الحلقة الأخيرة مع دولة تخاف من ابتسامة وليد في ملامح ابنته التي شبّت لتغنّي عن العصفور الذي طلّ من الشبّاك! لكنّ الدولة التي لم تنل من سناء دقّة عقوداً طويلة لن تنال منها الآن. ستخرج سناء مبتسمة لتقول لنا جملة زوجها الخالدة «إنّنا نسخر من أسوارهم ومن أسلاكهم الشائكة».
صحيح أنّ سناء هي جيش الباقي فينا من وليد دقّة، لكنّ لسناء أيضاً جيوشاً لا عدّ لها. جيوش لن تبخل عليها بأي شيء.

وإنّا على العهد.
في انتظاركِ يا سنديانة قلبي قريباً.
(حُدّدت جلسة محكمة لأم ميلاد غداً الثلاثاء، الثالث من حزيران/ يونيو. الحريّة حتميّة!)

إشراق كرونة
كاتبة تونسية مقيمة في باريس

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire