إسرائيل تُهندس الفوضى لتفكيك المجتمع الغزّي

 

عبد الله يونس

غزة | أكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أنّ الفوضى المتفشية في توزيع المساعدات «ليست حالة عفوية أو طارئة، بل نتيجة هندسة إسرائيلية متعمدة هدفها تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني وزرع بذور الصدام الداخلي».
وقال الثوابتة، في حديثٍ لموقع «الأخبار»: «منذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أنّ هدف مؤسسة (غزة الإنسانية) لم يكن تقديم الإغاثة الحقيقية، بل خلق فوضى مجتمعية».
وأشار إلى أنّه «يتم توزيع كميات قليلة من المساعدات على أعداد هائلة من المحتاجين، دون تنظيم أو شفافية أو رقابة، ما أدّى إلى تدافع وصدام بين الناس، وفتح المجال أمام ظهور عصابات منظمة تسرق المساعدات من الأهالي وتعيد بيعها في الأسواق بأسعار باهظة».
وأوضح الثوابتة أنّ هذه العصابات «لا تتحرك بشكل فردي أو عشوائي، بل تستغل البيئة التي صاغتها الآلية الإسرائيلية الأميركية عمداً، في ظل غياب الحماية، وإدارة الأمور في الهواء الطلق، بعيداً عن المؤسسات الإنسانية الرسمية كالأونروا أو الهلال الأحمر».
وشدّد على أنّ مراكز المساعدات هذه تحولت إلى «مصائد للموت» أودت بحياة المئات من سكان غزة، لافتاً إلى أنّ جيش الاحتلال قتل، منذ نشأة هذه المراكز في أواخر أيار الماضي، أكثر من 500 شهيد وخلّف ما يزيد على 3500 مصاب، «كانوا جميعاً لا يريدون سوى إطعام أطفالهم».
واعتبر أنّ «إسرائيل، عبر هذه الفوضى، تسعى إلى خلق بيئة صراع داخلي يُستنزف فيها الفلسطيني ضدّ الفلسطيني، وتُنتزع فيها الثقة من بين الناس. فهم لا يريدون فقط تدمير المباني والبنية التحتية، بل يسعون إلى تمزيق النسيج المجتمعي من الداخل».
ولفت مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى أنّ «الحل يبدأ بإعادة الإشراف على المساعدات إلى الجهات الدولية المختصة، ووقف العبث السياسي الإسرائيلي بالقوت الإنساني»، مطالباً المجتمع الدولي بموقف حاسم «لوقف هذا الانهيار الأخلاقي والإنساني».

واقع منتظري المساعدات وفي شهادة تعبّر عن واقع منتظري المساعدات، خرج طارق الشيخ (39 عاماً) من مركز تابع لـ«مؤسسة غزة الإنسانية» التي أنشأتها أميركا وإسرائيل وسط القطاع، حاملاً طرداً غذائياً كأنه كنز. غير أنّ فرحته لم تدم، إذ هاجمه ثلاثة شبّان مسلّحون في حيّ تلّ الهوى وسلبوه الطرد.
وقال الشيخ لـ«الأخبار»: «لو قاومت، كانوا طعنوني حتى الموت... هذا الطرد كان كل ما نملك».
وروى الشيخ أنّه سار ساعتين وانتظر سبع ساعات تحت الشمس للحصول على المساعدة، مشبّهاً المشهد بـ«الغنم... لا تنظيم ولا حماية».
وأشار إلى أنّ عصابات صغيرة باتت تترصّد الخارجين من مراكز التوزيع: «بيعرفوا مواعيد التوزيع... هجمت عليّ سيارة فيها شباب ملثّمين».
أمّا أم عمر (41 عاماً)، وهي أرملة، فتعرّضت للاعتداء والسرقة أثناء حملها كيس دقيق حصلت عليه من شاحنة مساعدات، برفقة نجلها عمر. وبعد أن تمكّنا من الحصول على الكيس بصعوبة، تعرضا لهجوم من ثلاثة أشخاص سرقوا الكيس منهما وأسقطوهما أرضاً، ما أدّى إلى إصابات جسدية لأم عمر، وفق ما روته لـ«الأخبار».
وقالت الأم إنّ فقدان الطعام كان أقسى من الألم الجسدي، معبّرةً عن صدمتها من وصول الأوضاع إلى حدّ المجاعة والفوضى. أمّا نجلها عمر، فحمّل غياب المؤسسات الدولية المسؤولية، قائلاً إنّ إسرائيل تعمّدت تغييب «الأونروا» والرقابة لتعمّ الفوضى وتتحول الحاجة إلى نزاع وصراع بين الناس.
غزة تتصدّر المشهد الاعلامي... من جديد
بعد انتهاء الحرب التي شنّها العدو الإسرائيلي على إيران، عادت كاميرات وسائل الإعلام العربية والعالمية لتسلّط الضوء على الإبادة المستمرة في غزة. خلال أيام الحرب على إيران التي استمرّت 12 يومًاً، تراجعت التغطية الإعلامية لجرائم الاحتلال في غزة، لصالح تغطية المواجهات الإيرانية. لكن مع توقّف الحرب أمس، عادت غزة لتتصدّر واجهة الأخبار من جديد.
رغم التوقف المؤقّت للمعارك في المنطقة، فإنّ الإبادة في غزة لم تتوقف. يستهدف العدو الإسرائيلي يومياً مئات النازحين الذين يبحثون عن مساعدات غذائية وإنسانية، وسط حصار خانق ومجاعة تتفاقم. الوضع الإنساني في غزة يزداد سوءاً مع استمرار سقوط عشرات الشهداء والجرحى يومياً.
على الضفة نفسها، عادت قناة «الجزيرة» إلى تقسيم شاشاتها إلى ست كاميرات وأكثر، لتحليل ومناقشة تطورات الإبادة في غزة. وتبثّ القناة تقارير مؤلمة تتضمّن أصوات المدنيين الذين يتهافتون على المساعدات وسط رائحة الموت التي تفوح من كل مكان. هذه التغطية أعادت التركيز الإعلامي إلى حجم الكارثة الإنسانية في القطاع.
في تقرير مؤثّر، عرضت «الجزيرة» قصة الأطفال الشهداء في غزة، كاشفة أن أكثر من 17 ألف طفل فقدوا حياتهم وأحلامهم منذ بدء العدوان الإسرائيلي. وثّق التقرير الشهادات والقصص التي تجسّد عمق المأساة التي يعيشها أهالي غزة، خصوصاً الأطفال.
من جانبه، نشر أنس الشريف، مراسل «الجزيرة» في غزة، تغريدة على منصة X قال فيها «يا عالم يا ناس. احكوا عن غزة، عن القتل، التجويع، النزوح، الحصار، الإبادة. احكوا عنا، 626 يوم وإحنا في قلب الإبادة! احكوا عنا يا ناس».
نداء يحمل وجع الغزيين الذين يعيشون يومياً بين القصف والمجاعة والصمت الدولي.

Vidéo
www.aloufok.net/gaza270625.mp4



شارع الرشيد... من معلم حضاري إلى ممر محفوف بالمخاطر
كان شارع الرشيد على ساحل قطاع غزة أحد مظاهر السياحة والمتنفس الوحيد للفلسطينيين، حيث تنتشر على جانب طريقه الساحلي المطاعم والكافيهات. واليوم، في ذات المكان، تنتشر رائحة الموت والبارود، خاصة بعدما أصبح هذا الشارع الطريق الوحيد الذي يصل ما بين شمالي غزة وجنوبها.
على عربة تجرها دراجة نارية معروفة باسم «التكتوك»، أو على عربة خشبية تجرها الحيوانات، يتنقّل الغزيون ما بين جنوبي القطاع وشماله، تسير في طريق وعرة بعدما دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي وجرف الشارع وحوله إلى صحراء رملية صفراء.
ويقول سامر نصر (19 عاماً)، الذي يعمل على عربة «التكتوك»: «بداية الحرب كنت على مقاعد دراسة الثانوية العامة، إلا أن الاحتلال حرمني فرحة النجاح ودراسة الهندسة التي كنت أحلم بها سنيّ الطفولة».
ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»: «ها أنا أنقل المواطنين من شمال غزة إلى جنوبه، عبر ما أسماه الاحتلال الإسرائيلي بالممر الآن، بينما هو في الواقع عكس ذلك»، واصفاً السير على شارع الرشيد، «وخصوصاً عند تبة النويري النقطة الفاصلة بين شمالي القطاع وجنوبه» بالمخيفة والمرعبة.
كما يلفت إلى أن مصدر الخوف يأتي من تجارب عايشها أثناء تنقله على الشارع الذي يعمل عليه منذ أربعة أشهر بحذر، خوفاً من أي استهداف صاروخي أو بقذائف الدبابات، حيث يقول: «أتحرك في ذلك الشارع ويدي على قلبي من أي إغلاق مفاجئ لا أتمكن فيه من العودة إلى بيتي وأبقى في الشارع من دون أي مأوى».
ويذكر الشاب نصر أحد المواقف التي جعلته يتردد في العودة إلى العمل على ذلك الطريق، قائلاً: «كنت بالقرب من تبة النويري عائداً إلى شمال القطاع، وإذا بإحدى دبابات الاحتلال المتواجدة في منطقة (نيتساريم) تطلق زخات من الرصاص اتجاه المارة، وفي ذات الوقت، أطلقت الزوارق البحرية قذائفها على الشاطئ المقابل لها، ولمدة نصف ساعة متواصلة لم نستطع التحرك فيها وقلق الإغلاق ينتابنا، نحن ومن معنا من الركاب العائدين إلى مدينة غزة».
وقد استشهد عدد من المواطنين في استهدافات متكررة على شارع الرشيد، مذ فتح الممر الإنساني إثر اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة «حماس» والاحتلال.
أما أفنان ريان (34 عاماً)، فينتابها قلق شديد، قبيل رحلتها الأولى إلى منطقة دير البلح، لتزور سيدة كانت قد نزحت عندها، وقد أصابها المرض والإعياء نتيجةً لعدم توافر العلاج اللازم.
وتوضح، في حديث إلى «الأخبار»، أن القلق من السير على شارع الرشيد يأتي لما سمعته «من استهداف لسيارات تمر من هناك أو رصاص يطلق على المارة بشكل مفاجئ، وأخطرها إغلاق الطريق». وتتابع :«أخرج وأنا أحمل روحي على كفي لأرد الجميل للسيدة التي احتضنتني طوال تلك الأشهر».
وتلفت إلى أنها لم تكن تتخيل يوماً أن يصبح شارع الرشيد الذي كانت كلما أرادت الترفيه عن أطفالها تصطحبهم إليه، أصبح ممراً لاصطياد الأرواح رغم إعلان الاحتلال الإسرائيلي أنه «ممر آمن».
ولا يختلف حال ثائر حسين (32 عاماً)، الذي يعمل على نقل الركاب من وإلى جنوبي قطاع غزة، عمّن سبقه، حيث يقول، في حديث إلى «الأخبار» أنه يعمل في تلك المهنة منذ أن تم فتح الطريق، موضحاً أن العمل في بادئ الأمر كان متعباً جداً لسوء الطريق ووعورتها بعد أن دمر جيش الاحتلال الشوارع والبنى التحتية.
ويضيف: «أصبح العمل خطراً جداً إثر عودة العدوان ضدنا، ومع منع تحرك السيارات، إلا أننا خاطرنا بأنفسنا من أجل الحصول على قوت أولادنا وواصلنا السير على شاطئ البحر خلسة وبحذر».
ويؤكد أنه وقبل شهر من الآن، وأثناء عودته من منطقة النويري وسط القطاع متجهاً إلى مدينة غزة وبالقرب من دوار مدينة الزهراء، استهدفت قوات الاحتلال مركبة صغيرة تقل ثلاثة أفراد تبعد عنه أمتاراً قليلة، مبيناً أنه «لولا عناية الله لأُصِبت والركاب بالشظايا التي في كل اتجاه، ما اضطرني إلى العودة إلى الجنوب والانتظار حتى حضرت الإسعافات ونقلت الشهداء من المكان، ثم عدت وأكملت طريقي».
بدورها، لم تجرؤ أميمة النجار (27 عاماً) على زيارة عائلتها في مدينة غزة خشية إغلاق الطريق، وعدم قدرتها على العودة.
وتقول لـ«الأخبار»: «نزحت إلى جنوبي القطاع مطلع حرب الإبادة ودمر الاحتلال بيتي ولم أجد بيتاً آخر، فضلاً عن أن عمل زوجي في الجنوب، فاضررت إلى الاستئجار في منطقة الوسطى، ولذلك لم أتمكن من رؤية أهلي سوى مرة واحدة أثناء الهدنة».
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد أعلن، فور استئنافه لحرب الإبادة على قطاع غزة في الثامن عشر من آذار الماضي، إغلاق محور «نيتساريم» في شارع صلاح الدين، مع الإبقاء على شارع الرشيد كممر مفتوح أمام تنقل المواطنين من شمالي القطاع إلى جنوبه فقط سيراً على الأقدام.
20 قتيلاً إسرائيلياً في غزة الأسبوع الفائت
قُتل 20 جندياً إسرائيلياً، الأسبوع، خلال المعارك في قطاع غزة، بحسب وسائل الإعلام العبرية.
وقالت مراسلة «القناة 12»، أمس، خلال لقائها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إن الجيش تكبّد 20 قتيلاً في معارك القطاع خلال الأسبوع الأخير، رغم أنه أعلن رسمياً عن مقتل 9 فقط في هذه المدة.
وتساءلت المراسلة: «ما هو الهدف من الحرب على غزة؟ متى ستقولون إلى هنا وكفى؟... في هذا الأسبوع فقط قُتل لدينا هناك 20 جندياً... فما الذي نفعله اليوم بشكل مختلف عن الذي قمنا به في الماضي؟».
بدوره، لم ينكر الوزير الإسرائيلي الرقم، وقال إن هذه الحرب هي الأطول في تاريخ العدو ولن تكون من دون نهاية، مشيراً إلى أنه «سيتم الانتهاء من الحرب حال تحققت الظروف المؤاتية، ومنها استعادة الأسرى والاتفاق على اليوم التالي».

إسرائيل تستعدّ لجولات آتية: الحرب بعيدة من نهايتها
مع مرور أيام على انتهاء الحرب الإسرائيلية على إيران، والتي استمرّت 12 يوماً، وانتهت بوقف إطلاق نار وفق تفاهم غير مكتوب، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أمس، أنه أصدر تعليماته إلى جيشه بوضع «خطة تنفيذية» ضد إيران. ويأتي هذا الإعلان في وقت تواصل فيه تل أبيب استعراض نتائج عملياتها العسكرية، وسط تحليلات إسرائيلية ترجّح أن الصراع لم يبلغ نهايته بعد، على الرغم من ما وُصف بـ»الإنجازات النوعية ضد البرنامج النووي الإيراني».
ويدور الحديث في إسرائيل، هذه الأيام، حول «الخطوة التالية» تجاه إيران، خصوصاً إذا ما قرّرت الأخيرة استئناف تطوير برنامجيها النووي والصاروخي. ويحاول المسؤولون الإسرائيليون التنبيه، بشكل مستمر، إلى سعي الكيان لتكريس «حرية حركة» إسرائيلية في إيران، في نوع من «جزّ العشب» المستمرّ؛ وهو ما تؤكد طهران أنها لن تسمح به على الإطلاق، وستردّ على أي اعتداءات جديدة قد يستجلبها.
وقال كاتس، في بيان رسمي، إن الخطة الجديدة «تشمل الحفاظ على تفوّق إسرائيل الجوي ومنع طهران من إحراز تقدّم نووي أو تطوير قدراتها الصاروخية، إضافة إلى الرد على دعمها الأنشطة الإرهابية المعادية لإسرائيل». وكشف الوزير، خلال مقابلة إعلامية، أنّ «إسرائيل كانت على وشك اغتيال المرشد الأعلى الإيراني (السيد) علي الخامنئي لو تسنّت لها الفرصة». وأضاف: «لو كان في مرمانا لقتلناه»، لافتاً إلى أن الجيش «بحث كثيراً» عنه قبل أن يقرّر خامنئي «الذهاب إلى أعماق الأرض وقطع الاتصال مع القادة»، ما جعل تنفيذ العملية مستحيلاً. وأعلن كاتس، في حديث مع «القناة 13» العبرية، أنّ إسرائيل ستوقف محاولات الاغتيال في الوقت الحالي، قائلاً: «هناك فرق بين ما قبل وقف إطلاق النار وما بعده». وجدّد تحذيراته من أنّه خلال الحرب المقبلة «لا يمكن السماح ببقاء خامنئي».
في موازاة ذلك، استعرض الجيش الإسرائيلي حصيلة عمليّاته العسكرية ضد إيران، مشيراً إلى أنّ «طائرات سلاح الجوّ نفّذت أكثر من 1,500 طلعة جوية استهدفت أكثر من 900 موقع في مختلف أنحاء إيران»، بما في ذلك مطار مشهد الذي يبعد نحو 2,400 كيلومتر عن إسرائيل. وزعم جيش العدو، في بيانه، أن العمليات «أسفرت عن القضاء على 11 عالماً نووياً بارزاً، وتدمير ثلاث منشآت نووية مركزية لحقت بها أضرار جسيمة، إضافة إلى تدمير آلاف أجهزة الطرد المركزي ومراكز البحث والتطوير المرتبطة بالبرنامج النووي».
كما ادّعى تمكّنه من «تدمير حوالي 200 منصة إطلاق صواريخ أرض – أرض (...) واعتراض مئات الطائرات المُسيّرة». وشملت الهجمات الإسرائيلية أيضاً، بحسب جيش الاحتلال، 6 مطارات عسكرية وعشرات المقرات القيادية للأذرع الأمنية والعسكرية الإيرانية، فيما تم القضاء على قرابة 80 منظومة دفاع جوي و15 طائرة عسكرية و70 راداراً وأكثر من 35 موقعاً لإنتاج الصواريخ، وكله بحسب ادّعاء العدو.
وفي الاتجاه نفسه، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي أن إسرائيل «حقّقت كل أهداف هجومها على إيران»، واعتبر أن العملية «ستُدرّس في الأكاديميات العسكرية». واعترف الوزير بتكبّد إسرائيل «خسارة بشرية مؤلمة»، لكنه زعم أنها «كانت أقلّ بكثير مما توقّعناه». وأكّد أن إسرائيل «ستردّ بقوة إذا سعت إيران مجدداً للحصول على أسلحة نووية».
وفي خضمّ التفاخر الإسرائيلي بنتائج الهجوم، كشفت صحيفة «يسرائيل هيوم»، أن وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، سيتوجّه إلى واشنطن لمناقشة قضيتين مركزيتين مع مستشاري الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هما «الحفاظ على إنجازات الحرب على إيران، وتوسيعها، إضافة إلى بحث صفقة غزة». كما سيكون على جدول أعمال ديرمر، التحضير لزيارة مرتقبة لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى واشنطن، حيث سيلتقي ترامب، الشهر المقبل.
وتعليقاً على تلك التطورات وما سبقها، رأى المحلل الإسرائيلي، أفي يسخاروف، في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن ترامب «صنع تاريخاً» حين أمر بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، معتبراً أن هذا القرار «غيّر قواعد اللعبة» في الشرق الأوسط، وخصوصاً «في نظر الدول العربية السُّنية التي طالما رأت في الإدارات الأميركية السابقة نوعاً من التساهل مع إيران». لكنّ الكاتب حذّر من أنّ هذه الحرب «بعيدة عن النهاية»، مؤكداً أن النظام الإيراني لا ينوي التخلّي عن مشروعه النووي، وأنّ إيران «ليست ليبيا»، إذ لا تهدّدها الفوضى الداخلية.
وأشار إلى أنّه «في حال رحيل خامنئي، قد يُعيّن خليفة يواصل السياسة ذاتها، وإن كان ثمّة احتمال لتعزيز المعسكر الإصلاحي». وتوقّع يسخاروف أن تسعى إيران لإعادة تخصيب اليورانيوم في منشآت سرية وربما التوجّه إلى إنتاج قنبلة نووية «من تحت أنف الغرب»، مشيراً إلى أن السؤال الكبير يتمثل في ما إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل ستواصلان الهجوم أو ستتجهان نحو المفاوضات بعد إبطاء المشروع النووي.
وختم بالقول إن الهجوم الأميركي قد «يمهّد الطريق نحو شرق أوسط جديد» خالٍ من إيران نووية، مع «حزب الله» محيّد وسوريا ساعية لأن تكون «دولة طبيعية»، فيما «دول عربية سُنية تمضي نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل». لكنّ تحقيق هذا السيناريو، بحسب التحليل، يبقى رهناً بإنهاء الحرب في غزة وإقصاء حكم حركة «حماس»، لفتح الباب أمام إدخال قوات عربية معتدلة وقوات «السلطة الفلسطينية» إلى القطاع.

كفر مالك لن تكون الأخيرة: المستوطنون يتوحّشون
أحمد العبد

رام الله | لم تكن مجزرة كفر مالك الدموية التي نفّذها جيش الاحتلال والمستوطنون، مساء الأربعاء الماضي، والتي استشهد فيها ثلاثة شبان وأصيب العشرات، مفاجئة؛ إذ هي ليست الأولى، ولن تكون، على أيّ حال، الأخيرة. وفي ما بدا تحركّاً منسّقاً، فتح جنود العدو، ومعهم عشرات المستوطنين المسلّحين، النار على الأهالي بهدف القتل، وتبعت ذلك محرقة لممتلكات المواطنين.
وشيّعت محافظة رام الله، في بلدة كفر مالك الواقعة إلى الشرق منها، مساء الخميس، ثلاثة شهداء، وسط حزن عام عمّ البلدة، التي لا تزال شوارعها شاهدة على المجزرة.
ويندرج هجوم كفر مالك الدموي، في إطار تصاعُد الهجمات الإرهابية للمستوطنين، الذين باتوا يحظون بغطاء استثنائي، يجعل من كل الأحداث التي جرت سابقاً، بمثابة «رأس سنام الجمل»، نظراً إلى ما هو قادم مستقبلاً. ويطاول الإرهاب هذا، الضفة الغربية، من شمالها إلى أقصى جنوبها، وهو إنْ كان سابقاً يقتصر على إلقاء الحجارة على منازل المواطنين، أو مركباتهم أو سرقة مواشيهم، فإنه بات اليوم أشبه بعمل عسكري تنفّذه عصابات مسلّحة، تشنّ هجمات على القرى والبلدات وتطلق النار وتقتل المواطنين وتحرق المنازل والقرى، في تماهٍ مع العصابات الصهيونية التي احتلّت فلسطين عام 1948.
ويتملّك المستوطنين شعورٌ بأنهم باتوا أقرب من أيّ وقت مضى من إقامة «دولة يهودا» في الضفة، وهو ما يعملون على تكريسه أمراً واقعاً، مستفيدين من التسهيلات التي توفّرها لهم حكومة اليمين المتطرّف، من خلال توظيف طاقاتها وإمكاناتها دعماً للمشروع الاستيطاني هناك.
ويأتي الهجوم على كفر مالك فيما لا تزال ذاكرة الفلسطينيين تحفظ صور الهجمات على قرى جيت وترمسعيا وبيتا وحوارة والمغير وغيرها العشرات، ما يعزّز حقيقة أن المستوطنين باتوا يعملون بشكل منظّم، وفق ما أكّدته شهادات المواطنين في البلدة، والذين أفادوا بأن المهاجمين انقسموا، مع بدء الاعتداء، إلى ثلاث فرق، كل منها كانت موكلة بمهمّة. ووصل عشرات المستوطنين على متن 15 مركبة، بعضهم مسلّح بأسلحة خفيفة، وبعضهم يحمل زجاجات حارقة، وآخرون مهمّتهم رشق الحجارة. أمّا قوات الاحتلال التي وصلت إلى أطراف القرية، فلم توقف الاعتداء، بل وفّرت غطاءً للمستوطنين، وشاركت في إطلاق النار، ما أدّى الى استشهاد ثلاثة شبان.
هذه المجزرة، وقبلها مجزرة دوما التي أحرق خلالها مستوطنون عائلة بكاملها داخل منزلها، وعشرات الهجمات الإرهابية، باتت تثقل كاهل الفلسطينيين، وتضعهم أمام واقع لطالما حاولوا الهروب منه أو تجنّبه. وفي المقابل، لم تغادر القيادة الفلسطينية مربّع الإدانة والشجب اللذيْن يتكرّران مع كلّ اعتداء، من دون أن تقدّم إجابة حقيقية أو واضحة حول كيف يحمي الفلسطينيون أنفسهم من عصابات المستوطنين.
وإلى جانب الهجوم على كفر مالك، سُجّل مؤشر جديد في تزايد توحش المستوطنين، وذلك فجر أمس في مدينة نابلس، حيث اقتحم مستوطنون مشياً على الأقدام، قبر يوسف، من دون أيّ حماية، في وقت كان فيه جيش الاحتلال ينشر مئات الجنود في المنطقة، حينما كانت مجموعات المقاومة تعمل في المدينة لتأمين هذا الاقتحام.
ويبدو ممّا جرى في نابلس، أن المستوطنين سينتقلون من الاقتحامات المُعلن عنها تحت حماية الجيش، إلى التسلّل إلى داخل المدن والأحياء في التجمّعات السكانية الكبيرة، بدلاً من أطراف القرى والبلدات، لافتعال مواجهات مع الفلسطينيين، ومن ثم تصدير سردية عنوانها أن ما يجري في الضفة عبارة عن مواجهات وصدامات بين «شعبَين» فلسطيني وإسرائيلي، وأن الجيش إنّما يتدخّل لمنع الصدام، في استجلاب لسياسة الانتداب البريطاني في فلسطين قبل 1948.
وبالفعل، فقد تأسّست، خلال الفترة الماضية، الأرضية التي تدفع المستوطنين إلى ارتكاب هجمات أكثر عنفاً ودموية، ليس بسبب تسليحهم، ومنحهم الضوء الأخضر سياسيّاً وعسكريّاً، واستنادهم إلى خطط استراتيجية للتوسّع والبناء فحسب، ولا إلى البدء بمرحلة التنظيم والتنسيق والتدريب على ارتكاب هذه الهجمات أيضاً، وإنّما كذلك لغياب إستراتيجية فلسطينية وخطة وطنية وقرار سياسي بمواجهة تلك الاعتداءات، وترك المواطنين يواجهون الأخطار بمفردهم.
ويترافق تصعيد المستوطنين مع عمل سياسي وقانوني تضطلع به حكومة بنيامين نتنياهو، ومجالس المستوطنات، لتسريع الجهود لضمّ الضفة الغربية وإعلان السيادة عليها. وفي هذا الإطار، تستمرّ عمليات مصادرة الأراضي وهدم منازل الفلسطينيين، وتهجير البدو وسكان التجمعات البدوية والمناطق المهمّشة، بينما ذكرت مصادر عبرية أن خطّة فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة باتت جاهزة، وقد حملها رئيس مجلس مستوطنات الضفة إلى الإدارة الأميركية.
وبحسب المصادر العبرية، تتضمّن الخطّة ضمّ 65% من أراضي الضفة، وهذه النسبة أكثر بـ3% من مساحة المناطق المصنّفة «ج»، فيما يجري تحويل ما تبقّى من أراضٍ، إلى 20 كنتوناً فلسطينيّاً شرط ألّا تشكل معاً كياناً وطنيّاً فلسطينيّاً موحّداً، وذلك ترجمةً لرؤية وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي يريد تقطيع أوصال الضفة بما يئد أيّ فرصة لـ»حل الدولتين».
أما وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي وعضو «الكابينت»، إيتمار بن غفير، فقد أعدَّ خطّة أمنية شاملة للضفة الغربية في اليوم التالي للحرب على إيران، تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة فيها، مطالباً بتنفيذ القواعد العامة للهجوم على إيران، على مراكز المقاومة في الضفة. وطالب بن غفير، في خطّته، بتنفيذ هجمات من الجو على مسلحين في نشاطات عامّة مثل الجنازات والمسيرات، وسنّ قانون إعدام على منفّذي العمليات، وفرض عقوبات اقتصادية ومدنية شاملة على السلطة الفلسطينية إلى درجة الشلل الشامل، ورفع مستوى الحصار والإغلاق على المدن والقرى الفلسطينية ذات العلاقة بعمليات المقاومة، وتصفية ممنهجة للفصائل الفلسطينية.

العدو يستعيد مجازر «الأيام الأولى»: الفوضى لا تزال هدفاً
يوسف فارس

غزة | بالتزامن مع تصريحات المسؤولين الأميركيين المتزايدة حول اقتراب التوصل إلى اتفاق يفضي إلى وقف كامل لإطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى في غزة، ويشكّل، في الوقت عينه، بداية مشروع تطبيعي واسع في الإقليم، كثّف جيش الاحتلال اعتداءاته الميدانية في مناطق القطاع كافة.
وبدا واضحاً أنّ سلاح الطيران الحربي والمسيّر الإسرائيلي، عمل خلال الـ48 ساعة الأخيرة بكامل طاقته، على نحو أعاد إلى الأذهان الأيام الأولى للحرب؛ إذ ارتكبت الطائرات الحربية عدداً كبيراً من المجازر الجماعية، عقب قصف منازل مأهولة واستهداف مراكز الإيواء وخيام النازحين وتجمّعاتهم في المناطق الإنسانية. كما استهدفت قوات الاحتلال منتظري المساعدات قرب مراكز التوزيع الأميركية. وأسفر ذلك عن ارتقاء نحو 81 شهيداً في مناطق القطاع كافة، طبقاً لما أعلنته وزارة الصحة الخميس، قبل أن تضاعف الطائرات المسيّرة والحربية غاراتها أمس.
وفي خضمّ الاعتداءات المتصاعدة، استشهد، فجر أمس، الدكتور أيمن أبو طير وعائلته عقب استهداف طاول خيمته، فيما أسفر استهداف مجموعة من المواطنين في بلدة بني سهيلا، عن ارتقاء مواطنين اثنين. كذلك، أغارت الطائرات الحربية على «مدرسة شعبان الريس» التي تؤوي نازحين في حي التفاح شرقي مدينة غزة، ما تسبّب بارتقاء عشرة نازحين وإصابة العشرات. وطاولت الاعتداءات نفسها منزلاً مأهولاً في حي جباليا البلد شمال القطاع، ممّا أدّى إلى استشهاد سكانه، فيما لم يتمكّن الأهالي إلا من انتشال شهيدين فقط.
وفي مخيم البريج وسط قطاع غزة، استهدفت الطائرات المسيّرة مجموعة من المواطنين، متسبّبةً باستشهاد خمسة منهم وإصابة آخرين. ولم تسلَم «مدرسة أسامة بن زيد» التي تؤوي نازحين في حي الصفطاوي شمال القطاع، بدورها، من القصف الإسرائيلي الذي تسبّب باستشهاد ثماني مواطنين وإصابة العشرات، فيما شنّت الطائرات الحربية، بالتوازي، غارات على شقة سكنية وسط مدينة غزة، قضى على إثرها مواطنان اثنان.
على خط موازٍ، نجحت الهيئة العليا لعشائر غزة وعائلاتها، الخميس، في تأمين شاحنات المساعدات التي عبرت من منفذ زيكيم أقصى شمال القطاع. وكشف مصدر عشائري، لـ«الأخبار»، أنّ تجمّع العشائر شكّل قوة شبابية استطاعت منع أي اعتداء على المساعدات. وأضاف: «يتوقّف دور العشائر على تأمين وصول الشاحنات إلى مخازن التوزيع، وبعد ذلك تتولّى المؤسسات الدولية والمحلّية التوزيع وفق الآلية القديمة المتّبعة»، مؤكّداً أنّ «العشائر لا تتدخّل في عملية التوزيع». وجاء هذا القرار في أعقاب مهاجمة الاحتلال وحدات التأمين، واستمرار سرقة المساعدات طوال الأسابيع الماضية، بحسب المصدر نفسه.
ودفعت الإجراءات المشار إليها بوزير المالية الإسرائيلي ووزير الأمن القومي إلى الادّعاء أنّ حركة «حماس» تمكنّت مجدّداً «من السيطرة على المساعدات». وعليه، منع جيش العدو دخول المساعدات إلى شمال القطاع، وسمح، في المقابل، بإدخال مئات الشاحنات إلى محافظة خانيونس ومنطقة النابلسي غربي غزة. لكن الجهود العشائرية فشلت في تأمين تلك الشاحنات، لا سيّما بعد ما شنّ جيش الاحتلال حملة قصف جوي طاولت عناصر «وحدة سهم» التي نشطت في ملاحقة اللصوص والعملاء، ما فتح المجال لانتشار الفوضى والسرقة والتجارة بالمساعدات مجدّداً.
ويأتي ذلك على وقع استمرار جيش العدو في ارتكاب جرائمه بحق منتظري المساعدات قرب مراكز التوزيع، في منطقة الشاكوش في مدينة رفح، ومنطقة العلم جنوبي القطاع، إذ سجّلت المصادر الطبّية استشهاد 13 مواطناً وإصابة العشرات. وبالتوازي مع إعلان وزارة الخارجية الأميركية دعم «مؤسسة غزة الإنسانية» بـ30 مليون دولار، نقلت صحيفة «هآارتس» العبرية شهادات لجنود الاحتلال، أكّدوا فيها أنّ قيادة الجيش تأمرهم باستخدام كل أنواع الأسلحة في قتل جموع الجائعين في مراكز توزيع المساعدات الأميركية، رغم أنه لم تُسجّل أي حادثة إطلاق نار من قِبل مَن يأتون لاستلام المساعدات.
وممّا جاء في شهادة أحد الجنود: «نستخدم الرصاص والمدفعية وقذائف الهاون في قتل المتجمّعين، كل شيء مسموح، غزة منطقة منسيّة، ولا أحد يهتم». وأشارت الصحيفة العبرية إلى أنّ المراكز أُنشئت في أماكن تحقّق هدفاً عمليّاتياً عسكرياً، ولم تراعِ حاجات السكان وتوزيعهم، خصوصاً أنّ شمال القطاع يسكنه أكثر من مليون إنسان، ولا توجد فيه أي مراكز توزيع.

حبيب صادق: مجاهد من «جبل عامل»
محمد ناصر الدين

كان قدَر الشاعر والأديب الجنوبي حبيب صادق (1931-2023) أشبه بتلك الورود الرقيقة التي تنبت في الجبال الصعبة وتحمل قلق المنبت والمصير، بين سلطة رجال الدين وسلطة رجال الإقطاع، والسهول التي ينام رأسها عند سهل الخيام بين أحضان الأرض الفلسطينية المغتصبة، وأحزان العامليين بفلاحيهم وكادحيهم وشهدائهم المنسكبة في مآتم النبطية الموصولة بخيط حزنها إلى كربلاء.
بين المشيخة والشعر، شقّ الفتى العاملي طريقه نحو الأدب، ليرث من سلسلة أهله العلماء سلسبيل اللغة وجزالتها، وإحساساً بضرورة قتل الأب بالمعنى الفرويدي: الولد التاسع عشر للمرجع الديني المشهور فقهاً وشعراً وزعامةً الشيخ عبد الحسين صادق من زوجته الثالثة حمله وعيه الطبقي بداهةً نحو الاشتراكية، حاملاً لواء العمّال و«الشغّيلة» والفلاحين الذين كانت أسنان الإقطاع تنهش لحمهم ورغيفهم، وتدفعهم قسراً إلى الهجرة نحو مدينة الذلّ والقهر والحرمان، أو يسقطون كالعصافير في قراهم بنيران الاحتلال يدفنهم في السهل مع الزيتون والبنادق.
كان حبيب صادق في طليعة المجموعة المتمرّدة من أبناء المراجع ورجال الدين التي انطبعت بهذا الديالكتيك بين وعي أممي وشيوعي، ولا وعي شيعي ينتفض على مشيخة الآباء وينهل من الموروث ما يتقاطع مع الثورة الدائمة على الطغيان والمراثي الضاربة في التاريخ للدم الذي ينتصر على السيف.
خاض حبيب صادق غمار العمل السياسي، وكان لا بد من أن يترشّح عام 1972 بدعم من كمال جنبلاط والحزب الشيوعي اللبناني في مواجهة لائحة الإقطاع وينال نسبة عالية من الأصوات.
وكان قد أسس لهذا العمل السياسي على قاعدة ثقافية صلبة، إذ أسهم عام 1964 في تأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي صار رئيسه منذ عام 1972.
حوّل حبيب صادق المجلس إلى منبر ثلاثي الأبعاد ينحاز أولاً إلى قضية الإنسان الجنوبي وثباته في أرضه في مواجهة آلة القتل الصهيونية منذ تفتّح وعيه على نكبة فلسطين وصولاً إلى تحويل بلدته الخيام أرضاً محروقة في الحرب الأخيرة التي عايش منها فصولاً قبل وفاته.
كما حمل المجلس همّ الوطن الباحث عن الدولة العادلة والقوية في مواجهة الفساد والتبعية والطائفية، وهمّ شباب الوطن المبدعين بتشجيعهم على النشر والمحافظة على التراث الفكري وبالأخصّ الجنوبي، فاحتضن في بداياته تلك العصبة التي حملت أدب الإنسان والمقاومة، وأطلقَ عليهم تسمية «شعراء الجنوب» لأن المجلس احتضن أولى أمسياتهم الشعرية قبل أن يتفرقوا طرائق شتّى.
أما البُعد الثالث وهو الأهم فيتمثل في مقارعة الصهيونية بالعمل الثقافي جزءاً لا يتجزّأ من «المعركة الضارية التي يخوض غمارها أهلنا في الجنوب ولا يقتصر القتال فيها على جبهة واحدة، بل يتجاوزها إلى جبهات عدّة قد تكون الجبهة الثقافية والأيديولوجية واحدةً من أهمّ تلك الجبهات وأخطرها».
اهتم «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بحفظ التراث العاملي وحمايته من الاندثار، فأشرف صادق شخصياً على طباعة آثار الكثير من الآثار العاملية للأديبة زينب فواز، ومحمد علي الحوماني، وعارف الحرّ، وأحمد رضا، ومحمد جابر آل صفا، وعبد المطّلب الأمين وفؤاد جرداق والمؤرخ حسن الأمين...
بعد حياة حافلة بالنضال والثقافة، ترك حبيب صادق لنا روحه الحساسة والمقاومة في مؤلفاته التي تناوبت على الشعر والفكر والسياسة مثل «وحدة القلوب» و«حوار الأيام» و«في وادي الوطن» و«فصول لم تتمّ» وغيرها.
في الذكرى الثانية لرحيله، يرد «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الدَين لمؤسسه عبر كتاب «حبيب صادق: شهادات ومرثيات» (إعداد زهير الدبس وكامل جابر) يجمع ما كتبته كوكبة من الأدباء اللبنانيين في الشاعر الذي ترك الأرض العاملية «في الفجر أتاها الموت اشتعلت مسكبة التبغِ/ تهاوت حنجرة العصفور»، لكنها وهي تدفن طيرها المذبوح، تشدّ على الجرح وتنتصب.
* في مناسبة الذكرى الثانية لغيابه، ينظم «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» مهرجاناً تكريمياً للأديب الراحل حبيب صادق في «قاعة بيار أبو خاطر» (الجامعة اليسوعية، طريق الشام ـ بيروت) يوم الثلاثاء 6 تموز (الساعة السادسة عصراً).



احتضنتها تولوز: أمسية فكرية ختامية تكرّم جورج حبش والمقاومة الفلسطينية
اختُتمت مساء أمس في قاعة "لا شابيل" بمدينة تولوز الفرنسية الجولة التعريفية بكتاب "لا شيء أثمن من الحرية – جورج حبش "، وسط حضور حيوي ونقاشات سياسية وثقافية معمّقة، تمحورت حول تاريخ النضال الفلسطيني، وراهنيّة الكفاح ضد الصهيونية والإمبريالية.
وشهدت الأمسية الأخيرة تفاعلاً لافتاً، حيث خُصصت للتأمل في إرث جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ولتسليط الضوء على الأفكار الثورية التي شكّلت وعي جيل بأكمله قدمها الناشط المناهض للإمبريالية والصهيونية الرفيق توم مارتن.
وقد تخلل الفعالية قراءات مؤثرة لمجموعة من النصوص الثورية، أبرزها "ورقة من غزة" للكاتب والمناضل غسان كنفاني ، قدّمها مجموعة صمود، التي أضفت على الحدث بُعداً أدبياً وإنسانياً عميقاً.
الكتاب، الذي صدر ضمن سلسلة "على فوهة البندقية"، يضم مجموعة من نصوص جورج حبش وخطاباته وحواراته، معظمها يُنشر لأول مرة بالفرنسية، وتمتد بين عامي 1970 و1990. تعكس هذه المواد الفكر السياسي للجبهة الشعبية، وتتناول قضايا الطبقة، واستراتيجيات التحرر الوطني، والموقف من اتفاقات التسوية، وأهمية الكفاح المسلح في مواجهة الاستعمار الصهيوني والإمبريالية العالمية.
العمل من تقديم رابطة فلسطين ستنتصر، وتضمن خاتمة كتبها المناضلان رون أوغستين وجان مارك رويلان، وهما من رموز الحركات الثورية الأوروبية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وشاركا في العمل المسلح ضد النظام الرأسمالي في أوروبا.
الكتاب متوفر حالياً باللغة الفرنسية عبر الطلب المسبق، وأُطلق رسمياً في الأسواق الفرنسية بتاريخ 7 آذار/مارس 2025، في نسخة أنيقة من 160 صفحة، ويبلغ سعره 13 يورو. وقد شهدت عدة مدن أوروبية تقديماً وعرضاً لهذا الكتاب من بينها (بروكسل، باريس، جنيف، غرينوبل، مرسيليا، تولوز، بو، بايون، أوستابات، نانت، شاتو-أرنوي-سان-توبان. وقد أجريت أيضاً عدة لقاءات إعلامية حول الكتاب. 
وختم المنظمون لهذه الأمسية بدعوة مفتوحة إلى كل المهتمين بتنظيم فعاليات أو عروض للكتاب في مدن أخرى، مؤكدين أن الأثر السياسي والثقافي لهذا الإصدار لا يتوقف عند لحظة نشره، بل هو جزء من معركة طويلة من أجل الذاكرة والحرية.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire